بتطور الزمن والمجتمعات.. هل ستنقرض أصالة عجائزنا؟

210

ذوالفقار المحمداوي /

نترقب كل ما تنطق به ألسنتهن من (كولات)، أصواتهن وهن ينُحن على فقيد مرت على وفاته عشرات السنين، أيدٍ دُقت عليها الوشوم وتضمخت بالحنّاء كأنها خريطة لكنز ما، أو عالم متراكم من الأحجيات، وتجاعيد في طياتها ألف حكاية وحكاية، (شيلة) سوداء تلف وجهوهن رغم كبر سنهن، وشعر يميل إلى الاحمرار، لم تقلّ كثافته بمرور السنين، يقصصن علينا ملاحم إعجازية، ويأخذن لآمالنا (الخيرة)، فهل ياترى ستكون هذه صولتهن الأخيرة؟
دخلت مجلة “الشبكة العراقية” عالم جدّاتنا العراقيات، وبترحاب مليء بالحنان، استقبلن هذه الضيفة بابتسامة، قالت إحداهن “هلا يرويحتي”، وأخرى لوحت بيدها لنا أن أقدموا “يابعد گـليبي”، وها نحن نحاول -قدر استطاعتنا- أن نستثمر كل لحظة ونحن نجلس قبالتهن لنستمع -عبر مجلتنا- إلى أصالة نشيد لا تكرار له.
(حسچة)
غلبن الدنيا بكل تغيراتها وتقلباتها، حيث ترى الهيبة والوقار، وتجد العنفوان مع الحنان والرقة، وأيضا القوة التي امتزجت بالرأفة، فمن منا لا يتذكر جدّاتنا اللاتي امتلكن مواصفات تختلف عن مثيلاتهن في الدول الأخرى، فالعجوز العراقية، في مختلف مدننا، تمتلك ذلك الطابع الخاص الذي يجعلها متميزة في مظهرها وتصرفاتها وأقوالها.
الجنوبيات من عجائزنا لهن حصة كبرى من هذه الأصالة، فتراهن قد سطرن الملاحم في حياتهن، إحداهن حاربت بطرق متعددة ضد الاستعمار، وأخرى تحاول أن تخفي ثائراً هو أحد أهم أعمدة الأسرة، وبينهن من جادت بكرمها على كل من دق بابها بلا تردد، وأخرى كانت خنساء أبدية عند فقدها أحد إخوتها أو أبنائها. وها هي الحاجة (أم جليل-87 عاماً) تحمل في طيات روحها الكثير من القصص، حين تنادينا بكلمة تُريح الروح والبدن (بيبي): “لقد كنت صيادة سمك محترفة في شبابي، ينافسني أشقائي في ذلك، برغم خساراتهم المتكررة أمامي، لذلك كان والدي يناديني بـ(صبيح) بدلاً من (صبيحة) ويؤكد: أنك (تسوين عشر زلم)، تزوجت بأحد الشيوخ في قريتي، أما الآن فإني أعاني من هذه المتغيرات التي تطرأ على زماننا هذا، فالبعض من أحفادي لايفهمون كلامي، ويرجعون إلى والدتهم (للترجمة)، وعندما اقرأ بعضاً من الأشعار التي مازلت أحفظها، تأتي والدتهم لتسالني عن معنى هذه اللهجة والشعر. لتجيبها وهي تسرِّح شعرها بمشطها الخشبي وتعزف سيمفونية الألم الأول:
آنا جديدي اللبس تاج ونياشين
كحيلة معنونة اربات السلاطين
هذا من تربات أهلنا والدواوين
(الشامبو) وصابون الرقي
ومن بلاغة الحاجة صبيحة إلى معاناة الجدة وبرية (أم علي -90 عاماً)، التي يحدثنا ابنها علي عما تلاقيه والدته بسبب تقلبات الزمن عليها، وعدم تقبلها بعض تفاصيل وتعقيدات هذا الحقبة، إذ يقول: “عجائزنا مازلن يدُرن في محورهن القديم، فعند ذهابنا إلى خياط الأقمشة تصيح بنا بعصبية: (جيبوا هالقماش آني أخيطه)، وترفض تماماً أكل (الصمون) الذي هو -حسب قولها- خبز المترفين، إذ أنها تفضل الخبز الأسمر الذي يخبز في تنور الطين، وتحاول أن تعلم أحفادها أن القناعة كنز، ولا يستحب التبذير في الطعام، كما لا يجب على أحدنا أن يتكلم وهو يأكل!”
يردف علي أن “هناك العديد من الأمور التي ترفض والدتي التعامل بها، فهي لا تحبذ المشروبات الغازية، إذ تعتبرها سموماً تهدم الصحة، لا تلفاز يغريها بمشاهدته، ولا برامج التواصل الاجتماعي تجذبها، وعندما يتعلق الأمر بنظافتها الشخصية، فإنها تضع نعليها تحت وسادتها خوفاً من ارتداء أحفادها لهما، أما شعرها فترفض تماماً ان تستخدم (الشامبو) في غسله، ولا تزال تقول لبناتها وزوجات أولادها وحفيداتها أن يستخدمن صابون (الرقي) فقط، كونه سر طول شعرها وعدم تساقطه، رغم عمرها الكبير.”
(الفرفوري) أولا
(الحاجة حسنة -91 عاماً) هي الأخرى تأخذ مكانها كطبيب للعائلة، فتارة تراها تضع الأعشاب وتغليها لأحد أحفادها الذي يشعر بألم في معدته، وتارة أخرى تعالج أوجاع عظام ولدها، بمسك موضع الألم لتقرأ عليه بعض الآيات القرآنية والأدعية، وكما تقول (سليمة)، إحدى بناتها: “الويل لمن يرفض ما تصفه من علاج.”، وتكمل “كنا دائماً نرفض ما تفرضه علينا من أسلوب عيش كانت تعيشه في صغرها، إلا أننا نراعي مشاعرها في غالب الأحيان ونقبل بما تقول.”
تضيف سليمة: “ليس هذا الأمر فقط، فهي المفسر الأول والأخير لكل أحلامنا، وما نحن إلا أولئك الموافقين على كل ماتقوله. (الخيرة) هي أيضاً من خبرتها، فكل أحفادها سيتجاوزون الامتحانات بتفوق، حسب توقعاتها، أما أطباق (الفرفوري) فهي أعز منا بالنسبة إليها، لذا تراها تخرجها من خزانتها التي امتلأت بها بصورة مستمرة لتمسح عنها الغبار، تنظر إليها بفرح، كأنها تيجان مرصعة بالذهب، وحين يكسر أحد الأطباق ينطفئ بريق عينيها وتختفي ابتسامتها. ومثل إبرها وخيوطها الملونة، تخيط قصصها علينا، ونحن نستمع بلهفة عن زمن جميل نتمنى لو أننا كنا فيه. أتمنى أن تكون في كل بيت عجوز (بيبي أو حبّوبة) أصيلة، لتحل البركة بسبب أنها الركن الطيب في الأسرة العراقية.”