وللحسناوات ألغازهن.. كيــــف اخترقت أولغا حلف الناتو
آمنة عبد النبي /
لا يزال وكر الجاسوسيَّة العالمي مزدحماً بفخاخِ عسل الجميلات، لانّ مهمة اختراق (كود) كبار رجالات الساسة والأعمال والشخصيات المهمة، في أي بلد، لا يمكن تفكيكه وتفتيت حصونه السريَّة إلا من خلال لمسات النعومة الانثويَّة الساحرة، علماً أن تجنيد النساء في الجاسوسيّة، ولاسيما الحسناوات منهن، للعمل، لا يكون اعتباطاً، وإنما له شروط فكرية ومهارات ذكاء فردية وفطنة ذهنية.
وحتى حينما تنتهي المهمة، قد تلهو وتمرح العميلة وتتمتع بجزء من يومياتها الطبيعية لكنها لا تفعل ذلك كله إلا بقدر معين وحساب، لأنها في العادة ستكون مراقبة من أجهزة الأمن التي جندتها لضمان ولائها الأبدي، ومهما سيّجت حياتها بالحيطة والخوف، إلا أنها سوف تقضي بقية العمر ما بين السير في الظلام أو المنفى القسري.
“أولغا”.. الشقراء الروسيَّة الداهية، التي تجيد التحدث بستِ لغاتٍ بطلاقة، صفعت ترسانة حلف الناتو و(طشَّرت) أسراره الحصينة وأنفتهِ الاستخبارية الهائلة بلمسة أنوثة مدربة، حينما تمكنت من الدخول، بفطنتها المُرعبة وذكائها الفذّ، إلى الدوائر الاجتماعية الحساسة في قاعدة حلف الناتو المتمركزة في نابولي جنوب إيطاليا، بعد أن أمضت ما يقارب العشر سنواتٍ في التكتيك المدروس والتقرب إلى كبار موظفي قيادة الحلفاء والأسطول الأميركي السادس.
شخصيات متعددة واشكالٍ متغيرة مثيرة انتحلتها أولغا لتكسب ثقة الهدف، جميعها تثير لعاب الرجال، وتقودها بسهولة إلى عوالم البرجوازية المجتمعية وقصور الساسة، تارة تكون بينهم كنجمة مجتمع لها سحرها الأخاذ، وتارة أخرى تتقمص دور الخبيرة والناشطة في عالم المجوهرات الثري.
تقارير صحافية أوروبية كثيرة ظلت سنوات تُلاحق حقيقة الشقراء الداهية، أبرزها ما حققت فيه، لشهور طوال، صحيفة إيطالية بالتعاون مع مجلة Der Spiegel الألمانية، وكذلك موقع Bellingcat الهولندي المتخصص بالصحافة الاستقصائية، وأيضاً موقع Insider الأميركي المتخصص كذلك برصد أنشطة جهاز الأمن الروسي وما يتفرع عنه، حين ذكر أنها كاذبة حينما زعمت أن ميلادها في عام 1978 وباسم “ماريا أديلا كوهفيلدت ريفيرا” المولودة في البيرو من أبٍ ألماني وأمٍ بيروفية، لأن اسمها الحقيقي هو “أولغا كولوبوفا” العضو في جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية، مستخدمة عضوية نادي Lions Club Napoli Monte Nuovo لتقترب من عسكريي القاعدة المتمركزة في Lago Patria المعروفة كأكبر بحيرة في إقليم Campania بالجنوب الإيطالي على البحر المتوسط، حيث ميناء نابولي الرئيسي للأسطول الأميركي السادس، وهو ناد أسسه ضباط في الحلف كجزء من شبكة تطوعية لخدمة المجتمعات المحلية، حيث اندمجت أولغا هناك بحيلتها بإحكام في الدوائر الاجتماعية لتتمكن بعد ذلك من كسب أفراد قاعدة الناتو والأسطول السادس الأميركي في نابولي، والغريب أن سرها لم يكن ليُكشف لولا اختفاؤها عن الأنظار فجأة عام 2018، مع أنها كانت تتنقل بين روما ومالطا وباريس لسنوات، والتحقت بالجامعة في روما وباريس.
والغريب أن أحدى المتاهات الجاسوسية التي استخدمتها الروسية لتشتيت العقول وإبعاد الشبهات عن غرائبية حياتها، عندما زعمت بأنها كانت صغيرة حين سافرت والدتها العازبة في الثمانينيات إلى الاتحاد السوفييتي لحضور الألعاب الأولمبية في موسكو، وهناك فجأة تلقت الأم رسالة طارئة من بيرو تطلب منها العودة على عجل، فتركت طفلتها لدى عائلة سوفييتية صديقة لترعاها، إلا أنها لم تعد مطلقاً، فنشأت أديلا في روسيا وسط علاقة صعبة مع والدتها بالتبني ووالدها، وبعدها ادعت بأنها أرملة دون أن يعرف أحد شيئاً عن زوجها المتوفى، وبذلك أخفت جذورها الروسية الحقيقية كي لا يكتشف أمرها.ونقلت مجلة “دير شبيغل” عن لفتنانت كولونيل ألماني، سمّته Thorsten S.. قوله:
“إن ماريا أديلا كانت ناشطة، وعرضت حتى دفع رسوم العضوية للجميع عندما بدأت أرقام المداخيل بالانخفاض.” واستغرب قائلاً: “لم أفهم أبداً دوافعها”، فيما كان أحد أصدقائها في نابولي هو الكولونيل Shelia Bryant المفتش العام للقوات البحرية الأميركية في أوروبا وإفريقيا في ذلك الوقت..
أما صحيفة “لاريبوبليكا”، فقد نقلت عن الكولونيل قوله إن “رواية ماريا أديلا عن حياتها كانت كاذبة ومشوشة وغير مقنعة، لأنها كانت تمتلك مالاً وفتحت متجراً وغيرت شقتها لأكثر من مرة في أرقى المناطق بالمدينة، من دون مصادر دخل موثوقة، والأهم من ذلك كله أنها كانت على اتصالات وثيقة بضباط من إيطاليا وبلجيكا وألمانيا والولايات المتحدة..”
تمضي السنوات الحائرة بصفعة الفاتنة الشقراء التي دوّخت القارة العجوز، ليبقى السؤال المُرّ:
أين هي أولغا الآن، وكيف خرجت بكامل عنفوانها من براثن الناتو ومن ثم ذابت إلى الأبد كفص ملح!