ضيق الفضاءات يقتل نصب وتماثيل بغداد

266

استطلاع – زياد جسام – تصوير: علي الغرباوي /

تتعرض النصب والتماثيل الفنية في بغداد، بين الحين والآخر، إلى ممارسات تسيء إلى هذه الأعمال ولقيمتها الإبداعية، ولاسيما أنها تشكل هوية العراق الحضارية. من بين هذه الممارسات إنشاء الأبنية في المساحات المحيطة بالنصب، التي تشوه الفضاء العام لها. مسألة الإساءة لهذه النصب المهمة أثارت حفيظة الفنانين والنقاد، ومن خلال هذا الاستطلاع ناشدوا الجهات المعنية إيجاد الحلول اللازمة.
فقد تحدث الفنان (قاسم سبتي)، رئيس جمعية التشكيليين العراقيين، عن هذا الموضوع قائلاً: “في مرحلة سابقة جرى تشويه نصب الحرية من خلال وضع نافورة أسفل هذا النصب العظيم، ما أساء إلى جماليته وإلى الفضاء المحيط به، حتى أنه تسبب بالإساءة إلى دعامات ذلك النصب، إذ أثرت الرطوبة عليه بشكل سلبي.. قدمت في حينها شكوى ودراسة إلى أمين بغداد آنذاك (نزار القصير) ورفع التجاوز بأمر من السلطة العليا، بصراحة في كل حين تتعرض الأعمال الفنية للإساءة والإهمال المقصودين او غير المقصودين.”
أضاف سبتي: “هناك العديد من جداريات الفنان (غازي السعودي) معظمها مهمل وفي أماكن منسية، كذلك بعض أعمال الفنان محمد غني، وأخرى للفنان اسماعيل فتاح. تخيل أن هناك واحدة من جدارياته موجودة في مدينة الطب، حيث قاموا ببناء قاعة استعلامات غطت هذه الجدارية بالكامل!! وهناك الكثير الكثير من هذه الإساءات للأعمال الفنية ولمبدعيها الكبار. باختصار نحن جئنا إلى الفن التشكيلي عبر طروحاته الفكرية والجمالية المعاصرة من أوروبا، لكن للأسف لم نستورد مع هذه الأشياء كيفية التعامل مع جماليات النصب والحفاظ عليه، لذا ستبقى الحركة التشكيلية تفتقد الكثير من هذه الأمور، إذ أن الحفاظ على العمل الفني يمر عبر الفضاءات المحيطة به، وأحيانا يجري ترميم أحد الأعمال، لكن الترميم يكون بطريقة سلبية لا تليق بالعمل، بل تشوهه تماماً.”
ودعا الفنان سبتي إلى “إيجاد لجنة يكون لها الرأي الحاسم فيما يخص ما تتعرض له هذه الأعمال من إساءات، وأن تكون هذه اللجنة مرتبطة بأمانة بغداد بالتعاون مع جمعيتنا، جمعية التشكيليين، ونحن مستعدون لذلك، وأن تكون لهذه اللجنة صلاحيات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه الأعمال الفنية الرائعة التي لن تتكرر أبداً.”
رؤية النصب
أما الفنان (د. فاخر محمد) فقال: إن “موضوع النصب، وتحديداً في العاصمة بغداد عندما أنشئت في مطلع الستينيات، بل إن بعضها كان في الخمسينيات من القرن الماضي، كان موضوع الفضاء المحيط حينذاك مهم جداً بسبب تأثيره المباشر على النصب وكيفيه رؤيته، فوضع بنايات قريبه أو أشجار ونخيل أمامه تصرف غير صحيح.. إذ أن من الضروري أن يحيط بالنصب فراغ أو فضاء مفتوح لكي يستقل النصب بقيمته الجمالية من جانب، وليكون نقطه جذب لعامة الناس. من خلال إشرافنا على نقل وإقامة نصب (النخلة) للمرحوم الفنان اسماعيل فتاح، اعترضت على الأعمدة الضوئية التي أحاطت بالنصب، لأنها عالية وتؤثر كثيراً على جماليته. على أمانه بغداد أن تشكل لجنه من الفنانين العراقيين ليعطوا ملاحظاتهم في مثل هكذا أعمال، وذلك لأهميتها الحضارية والإنسانية.”
وأضاف أن “المؤسسات الحكومية، بل حتى المسؤولين الكبار في الدولة، من الضروري أن يكون جزءاً من رؤيتهم هو كيفيه إنشاء مدن تليق بتاريخ ومكانه العراق. والمدن لا تنشأ بالعمارات الكونكريتية فقط.. بل في البيئة الحضارية والإنسانية لهذه المنشآت، فوجود النصب والمساحات الخضر والجداريات الفنية والمتاحف والمراكز الثقافية، هذه كلها تضيف أهمية إلى مكانه الدولة وقيمتها أمام العالم. عندما أعيد ترميم نصب الحرية وحديقة الأمه وتمثال الأمومة، أصبح المكان مركز جذب للكثير من المواطنين، إضافة إلى التغيير الجمالي الذي حصل للمكان. أعتقد بأن أمانه بغداد ووزارة الثقافة يمكن أن تلعبا دوراً كبيراً في رعاية وتطوير نصب بغداد، لأنها تشكل ذاكره ثقافيه وحضارية مهمه للإنسان والدولة.”
حماية النصب
كما تحدث الفنان (د. فلاح حسن الخطاط) قائلاً إن “من المتعارف عليه حينما يقام نصب أو تمثال ما، تحسب الجهة المنفذة الفضاء المحيط به وتؤثثه بما يتلاءم معه، وهذا ما تدربت عليه عين المتلقي في دول العالم أجمع ومنها العراق، ولو استعرضنا تلك النصب سنجد أنها اختيرت لها الأماكن والفضاءات بعناية، لكننا في الآونة الأخيرة نرى أن تلك المساحات بدأت تنحسر وتتضيق وتشيد عليها مبانٍ، مثل تلك التي حجبت نصب الشهيد، وتخصيص مساحات أخرى للاستثمار أساءت للمكان، في حين أن فكرة النصب بنيت على فلسفة الفضاء المحيط به، وكيفية النظر له من زوايا مختلفة تجعل الناظر في دوران مع القبة المشطورة. وحين أقيم النصب آنذاك أوصت الجهات المعنية أن لا ترتفع بناية أعلى منه في أنحاء بغداد، والمكان الثاني الذي أسيء إليه هو نصب الجندي المجهول، الذي هو الآخر تحولت فضاءاته إلى مرآب للسيارات وممر لها، وبنيت حوله وبشكل مشوه بعض الأبنية لثكنات عسكرية وضعت فوقها خزانات المياه البلاستيكية. فضلاً عن إهمال مساحاته الخضر وإنارته، عدا ما أزيل من بعض النصب بحجة (الاجتثاث).”
وقد وضع الفنان فلاح الخطاط مسؤولية الحفاظ على النصب والتماثيل وفضاءاتها على عاتق المؤسسات، ولاسيما وزارة الثقافة وأمانة بغداد ونقابة الفنانين وجمعية التشكيليين، لمنع عمليات السيطرة على تلك الفضاءات من قبل الجهات المتنفذة، بتشريع قانون حازم يحمي تلك النصب وإيقاف التشويه البصري الذي نال منها، كونها تمثل وجه بغداد الحضاري.
بيئة حضرية
أما (د. معتز عناد غزوان) فقد تحدث عن تلك النصب والتماثيل فوصفها بأنها الوجه المشرق والحضاري للمكان، وقال إن “البيئة الحضرية التي تنتمي إليها تلك النصب والتماثيل تمثل حضارة البلاد، نظراً لما تحمله من روح تعبيرية جمالية للتراث والتاريخ الحضاري والإنساني، ولاسيما للمكان الذي يتمتع بتلك السمات المهمة، فالعراق مهد الحضارات وصاحب التاريخ الإنساني المهم الذي أغنى العالم بالقيم المختلفة في العلم والأدب والثقافة والفنون.
ونظراً لما تتمتع به العاصمة بغداد من مكانة حضارية مهمة، شيدت في أجمل منظر، أرى أن الأعمال التشكيلية من نصب وتماثيل وجداريات جسدت تلك الجداريات صوراً جميلة منتقاة لتلك المفردات الحضارية والتراثية الإنسانية، ومنها جداريات الزوراء لغازي السعودي، فضلاً عن جداريته الجميلة في المتحف البغدادي، التي أساء إليها البناء العشوائي وتوقف المركبات والآليات المختلفة، فضلاً عن الباعة المتجولين، فأصابها تلوث بصري هائل قلل من قيمتها الجمالية، ولاسيما أنها صنعت من مادة الموازئيك.
لذلك يجب أن تمتلك التماثيل والنصب المهمة حيزاً مكانياً واسعاً للتمتع بقيمتها الجمالية والفنية والفكرية، مع التنسيق المميز للحدائق وطبيعة الأشجار الموجودة، كما هو معمول به في العالم المتحضر اليوم، إذ باتت بعض المباني تشيد بالقرب من تلك النصب والتماثيل بدون الرجوع الى قوانين تحدد طبيعة التخطيط الحضري للمدينة ودراسة المكان وجمالياته التي بدأت تشعر المتلقي والجمهور بالملل والتلوث البصري الهائل وعدم التمكن من قراءة النصب والتماثيل بصرياً والاستمتاع بها جمالياً، وهذا ما نجده واضحاً اليوم في شوارع بغداد التي تحولت، بسبب عدم الالتزام بالبناء وعدد طوابق المبنى ومكان البناء نفسه، إلى ضياع ملامح عديدة للمدينة الجميلة بنصبها وتماثيلها الجميلة، كنصب شهرزاد وشهريار في شارع أبي نوّاس، وغيرها.” ودعا د. معتز إلى تشكيل لجان متخصصة من أمانة بغداد وكلية الفنون الجميلة أو نقابة الفنانين أو جمعية التشكيليين العراقيين ووزارة الإسكان والإعمار ووزارة المالية، من أجل إيجاد حل لهذه الأزمة التي تخنق التراث والحضارة العراقية الإنسانية العريقة.