العصا الرحيمة !

193
حسن العاني/
في خمسينيات القرن الماضي، وأنا تلميذ في مدرسة الكرخ الابتدائية، قام المدير (عزة الخوجة) رحمه الله، بمعاقبة أحد التلاميذ لأنه اعتدى على زميله ومزق قميصه، ولم يكتف المدير بالعقوبة، بل تولى طرده وأمره بإحضار ولي أمره.
حضر الولي، ومد يده للمصافحة، وعندما مد المدير يده انحنى فوقها يريد تقبيلها، لولا أن الأستاذ عزة سحبها بسرعة. ومن دون مقدمات تكلم الرجل كلاماً واضحاً وبسيطاً هذه فحواه [يا أُستاذ عزة.. يشهد الله أنكَ ولي أمر ولدي قبل أن أكون أنا.. وأية عقوبة تتخذها بحقه، فهي عقوبة صادرة من أب يريد خير ابنه وإصلاحه..]
 ولا يقع في ذاكرتي أن مخالفة قد صدرت من ذلك التلميذ، الذي أصبح بعد عقدين من الزمن واحداً من أشهر أساتذة الجامعة تواضعاً وعلماً وثقافة.
لعله العام 1970 وأنا معلم (مدرسة الظفر)، يوم زارنا المشرف التربوي وأبدى عدة توجيهات، بلغة أقرب ما تكون الى الرجاء، لكي نبتعد عن استعمال العصا واللجوء إلى الأساليب التربوية. وكنا نعرف بأنه يعرف أن مع كل معلم منا (يداً أو عصا) تحسن العقاب. ثم زارنا الرجل ثانية يوم خميس لحضور (رفعة العلم)، واتخذ مكاناً قريباً من تلاميذ الصف السادس، ولاحظ أن أحدهم – في الخط الخلفي – يضرب التلميذ الذي أمامه بما يشبه المزاح، فتوجه إليه وتحدث معه بلهجة تربوية – كرر التلميذ حركته، فعاد المشرف إليه بوجه غاضب طالباً منه الالتزام بما يسمعه و .. وللمرة الثالثة يعاود التلميذ حركته، فما كان من المشرف إلا أن قادهُ من أُذنه الى وسط الساحة وانهال عليه بالضرب الشديد، بحيث سارع أقرب المعلمين منه مع المدير وخلّصا التلميذ من يده. وفي الاجتماع الذي أعقب رفعة العلم قال لنا: يا إخوان.. أي تلميذ من هذا النوع لا تقصروا معه!!
في تسعينيات القرن الماضي، قصدت وزير التربية، بصحبة الزميل علي غني، لكي نجري معه تحقيقاً لمصلحة مجلة (ألف باء)، وقد سألته عن التعميم الصادر حول منع استعمال العصا، فأجابني بما معناه (الممنوع هو القسوة أو العنف في العقوبة.. هل تعلم أن أرقى البلدان الأوربية تجيز للمعلم استعمال العصا، التي يطلقون عليها اسم (العصا الرحيمة)، أي لا تكون قاسية ولا تنال مناطق معينة كالرأس أو العين أو الوجه.. الخ)، وسألته إن كان بالإمكان الإشارة في التحقيق الصحفي الى هذه العصا، فأبدى موافقته، وبينما كنت في اليوم الثاني أضع العنوان [وزير التربية: أنا مع استعمال العصا الرحيمة] اتصل بي الرجل: أرجوك أستاذ لا تتناول قضية العصا الرحيمة، لأنها سوف تضعني في إشكال مع الجهات العليا!! ولأنني فهمت المقصود، لم أستطع الا احترام رجائه.
بعد 2003 بات من الطبيعي أن يتجرأ ولي أمر التلميذ ويتطاول على المعلم إذا صدر عنه مجرد كلام فيه خشونة تربوية مع أحد تلامذته، كما بات من الطبيعي – إذا تجرأ المعلم وقرص أُذن التلميذ الذي يسيء الأدب- ان يهيئ نفسه وعمامه للفصل العشائري!!