الناقد حيدر العابدي: الأدب العراقي يزهو بالجوائز العربية والعالمية
حاوره – علي لفتة سعيد/
لم تستهوه من الموهبة إلّا القراءة، ولم يجذبه من الأجناس الأدبية إلّا النقد. ورغم تعدّد مواهبه ما بين التصوير والنشاط الثقافي في العراق أو خارجه أيام ما كان مسؤول النشاط الثقافي في المركز لثقافي العراقي في اليونان، إلّا أن الكتابة النقدية سحرته، فراح يبحر في النصوص من أجل خلق عوالمه الخاصة التي أثمرت عن كتابين نقديين صدرا له في القاهرة هما (الأنساق الواقعية والرمزية في الرواية العراقية ما بعد 2003) وكذلك (التمثلات الدلالية في القصة العراقية ما بعد 2003)، فضلًا عن عشرات المقالات والدراسات النقدية التي اهتمت بالنصّين الأدبي والمسرحي كذلك. وهو لم يزل يواصل الكتابة وإن كان بهدوء وبطء.
* ما الذي وجدته في النقد لكي يأخذك دون باقي الأجناس الأخرى؟
– جاء ذلك نتيجةً لتأثري بالقراءة والأفكار الفلسفية التي كنت شغوفاً بما تطرحه من تساؤلاتٍ وإشكالاتٍ حول الوجود الإنساني والطبيعة وآليات التفكير المعرفي والنقدي، وهو ما جعل هذا التفكير يعتمد على أحد أهم (مرتكزات التفكير النقدي والفلسفي الذي يقوم على الشك وإثارة الأسئلة)، وهو الأمر الذي ساعدني في البحث دوماً عن إجابات معرفي من خلال الأسئلة المطروحة، أو كما يقول إنها (الرؤية النقدية في الكثير من جوانبها تحاول الانغماس لتحليل وبحث قوة وضعف الكثير من الإجابات حول هذه الأسئلة).
* النقد مهمّة صعبة، وهو يحتاج الى إلمام كبير، ليس فقط في الجانب الأدبي وأجناسه، كيف استطعت لملمة العناصر الداخلة في النقد لكي تصدر كتابين في مرحلة عمرية مبكّرة؟
شفرة الأسئلة
– نعم، النقد مهمة صعبة، لكنه كان الحصّة الأكبر في مقارباتي النقدية. السبب يكمن في عمقه الذي يمثّل اجتراحاً معرفياً وثقافياً قادراً على فكّ شفرة الأسئلة، ويتيح إمكانية تفكيك وتحليل النصوص وإعادة تشكيلها معرفياً، وأن مهمة الكتابة سواء أكانت نتاجات أدبية أم نقدية ليست سهلة على الإطلاق، فكلّ مجالات وحقول التأليف تمثل تحدياً وخياراً صعباً لمن يريد خوض غمارها، بل إني أجد أن النقد في جوانبه الفكرية والفنية أكثر صعوبة من بقية الحقول، لأنه يحاول فكّ شفرة ومضمون النص المنقود، من حيث كشف وتحليل مراكز القوة والضعف فيه، وهذا ما يتطلب من الناقد امتلاك رصيد معرفي وعلمي كافٍ لتميزه، لكن لابد لأي ناقد أو كاتب، إذا ما أراد بناء هوية ثقافية أو أدبية معينة، أن يدعم ذلك بنتاجٍ يرسم إطاره الفكري، والتأليف أو الكتابة يمثل كل منها أثراً مادياً وإطاراً هوياتياً فاعلاً وأكيداً. لذا أعد الإصدارين ضمن هذا الدافع الحقيقي الذي يعتريني وهو لترسيخ هذه الهوية إضافة الى همّي المعرفي في رفد وتعضيد هذه الهوية بما ينسجم وتطلعاتي الفكرية.
* هناك صراع بين النقد الأكاديمي والنقد الأدبي، هل هو صراع من أجل إثبات القوّة الإبداعية أم صراع الإزاحة المكانية؟
– إن هذا الصراع –تاريخياً- حاصل بين منظومة ترتبط بالثوابت والقوانين المؤسساتية المتداولة والسائدة والمهيمنة على الوسط الأكاديمي، وبين منظومةٍ تعتمد التجريب والتجديد والاختلاف وعدم الركون للسائد. من هنا كانت بدايات هذا الصراع الذي أسهم بظهور المدارس الفلسفية والفكرية في اليونان، ومنها الصراع ما بين المدرسة (المشائية)، التي تعتمد حرية التفكير وتداول المفاهيم والتجديد التي أسّسها سقراط، وبين المدارس الدينية والاجتماعية والأكاديمية التي ترتبط بالسلطة. وما يزيد في هذا الصراع أنه له امتداداته العميقة والمتجذّرة في التاريخ. أعتقد أن الخلاص من هذا الصراع يبدأ بفعل المزاوجة والتساوق ما بين التوجهين، لأنه مطلوب لأيّة تجربة نقدية ناجحةٍ وفاعلة، وفي رأيي لا يمكن إقصاء طرف على حساب طرفٍ آخر، فالجميع بحاجةٍ إلى الرصانة والدقة الأكاديمية في ضبط المصطلح والمفاهيم، كما نحن بحاجة للتجديد والاختلاف معها وتطوير إنتاج مناهج ورؤى جديدة من خلال كسر الثوابت الأكاديمية، اما القطيعة ما بين الاثنين فسوف تنتج فوضىً وتشظياً يفقدانا التواصل والتفاعل.
*ثمة من يذكر دوما أن لا نقد لدينا وإنما هو مجرّد تأثير بمقولات الآخرين، كيف يمكن أن نعد النقّاد العرب القدامى خارج هذا التوصيف؟
تهم جاهزة
– أكيد أن لكلّ كاتب مرجعياته الفكرية والأدبية والقاموسية التي ينطلق منها وتصقل تجربته الكتابية وتغنيها، بل وتشكّل رؤيته للعالم ولنفسه، لكن مع فارق جوهري وأساسي هو توظيف هذه الأفكار والمرجعيات لتكون انطلاقة لتطوير واكتشاف أفكار ومقولات جديدة ودلالاتٍ أوسع وأشمل من القديمة، وتواكب عصرها، كما حدث في صراع الحداثة وما بعد الحداثة، لذا لا يوجد نصّ بدون مرجعيات مطلقاً. من جانب آخر هناك من أسميهم أصحاب التهم الجاهزة، وهم موجودون في معظم المجالات الفكرية والأدبية، وشغلهم الشاغل هو إصدار التهم لكل جهدٍ أو عمل أدبي أو نقدي ولاسيما النتاجات التي حقّقت حضورا فعلياً.
* ما الذي أردت قوله في كتابيك النقديين؟
– حاولت متابعة أكثر النتاجات الأدبية المميّزة وتسليط الضوء على أبرز سماتها الفنية والفكرية، فمن خلال تتبّعي لمراحل تطوّر تحوّلات القصة والرواية العراقية منذ بداياتها الأولى، وجدت أن الوعي في هذين الجنسين اختلف من مرحلةٍ إلى أخرى من حيث تقنيات البناء والأسلوب الفنّي وطريقة التوظيف، كما أن هذه التحولات في مجملها تتأثر بالتحولات السياسية والاجتماعية، سلباً أو إيجاباً، وبهذا أعدّ أن ما بعد 2003 يمثّل مرحلةً جديدةً من الفهم والنضج الأدبيين، بفعل التراكمات التاريخية التي أسّس لها الرعيل الأول في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، لقد ركّزت في الكتابين على ظاهرة الرمزية من خلال الواقعية والعكس صحيح، وقد رصدت أبرز النتاجات الأدبية ما بعد 2003 وكانت ذات سمات وخصائص فنية وفكرية معينة، منها ما أسميته بالواقعية والرمزية، أي توظيف واستثمار الواقعي واليومي بإطارٍ رمزيّ من خلال الأسطورة والرموز والمتخيّل، ما أسهم في إيجاد مرجعية فنية وفكرية بخصائص عراقية جديدة.
فقر فني
* هناك من ينتقص ويجلد ذاته من النص المحلي.. كيف ترى النص الأدبي العراقي أمام النصّ الخارجي؟
– التجربة العراقية أثبتت بالدليل القاطع أنها تتطوّر وتتجدّد وتزهر، إذ إنها شكّلت حضوراً لافتاً، كما أن النتاجات الروائية العراقية حصدت العديد من الجوائز المحلية والعربية والعالمية وترجمة الى لغات عدّة، وهذا دليل على عافيتها، إذ لم يعد السرد الروائي في العراق ذلك المنتج المعني بإظهار الجانب الأدبي والجمالي فقط،، بل أصبح بفعل التحوّلات التقنية والفكرية الحاصلة، بنيةً ذات مستويات متعددة ومختلفة تضم بين دفتيها العديد من الموضوعات المتباينة والمختلفة فنياً وفكرياً، مثل: الفلسفة والشعر والموضوعات النفسية والاجتماعية والتاريخية والسياسية، بحكم المرونة والحرية التي تمتاز بها طبيعتها الفنية والموضوعية كطول نفسها السردي وزمنها الحكائي، وهو ما دفع غالبية كتّابها إلى تكسير أشكال وأنماط الوعي السردي التقليدي والتغريد خارج أطار الحدود والثوابت المرسومة لهم.
* ثمة مقولات تتردّد دائماً على ألسن النقاد، وكأنها عملية فرض الثقافة الشخصية، هل تراها عجزاً عن الخروج من عنق هذه المصطلحات؟
– أن العيش هكذا هو سقوط في فخّ التنظير على حساب الإجراء، كما أنه يكشف عن فقرٍ فني وموضوعي يعود بالسلب على الناقد ويكشف هشاشة وعيه، كما أن الناقد الذي يحاول ليّ عنق النص بمقولات ومصطلحات جاهزة دون التمعن في النص المنقود هو ناقد استهوته لعبة الترقيع أكثر من الإبداع، لذا تجده يكرّر ما يقوله دائماً، سواء أكان ذلك في نص أدبي أو ثقافي، وهي حالة سلبية غير مجديه، بل إعلان عن موت الناقد نفسه، لكن من يتمعّن في الواقع النقدي في العراق لا يبتعد كثيراً عن الواقع النقدي العربي من حيث الشكل أو المضمون، و ما حصل بعد 2003 هو زيادة في التجربة النقدية في العراق إذ إنها شهدت نمواً وتطوراً نقدياً وأدبياً كماً ونوعاً واضحاً ومهماً.