لعبد الزهرة زكي.. “غريزة الطير”.. شعرية التاريخ الدامي

845

باسم عبد الحميد حمودي/
بين البصرة وريتشموند الإنكليزية تتحرك عائلة سليمان زيني، ابنهم (آدم) وصديقه (فوزي)، والبنت الدكتورة سهاد وزوجها الكويتي الدكتور حسين خالد البدر، ووالدة فوزي الدكتورة إيما هيرلي، التي توفيت في بريطانيا بعد اضطرارها للرحيل.
كلهم رحلوا عن المدينة التي أحبوها وعاشوا حيويتها وهويتها الحضارية المتوهجة التي خدشتها رصاصات الحروب وسلاسل الدرك الوطني الذي يتخذ أشكالاً متعددة.. منها الحزب، ومنها دوائر التحقيق، ومنها صيغ العسف. يقول آدم زيني لصاحبه فوزي الخير الله (وهو الراوي الأساسي لغريزة الطير) عندما يريد بتر حديث مؤلم: “لا تجعل من صدرك مستودعا للأسرار، ليكن الصدر مدفناً لها، دع الأسرار تمضي في النسيان.”
واقع الأمر أن الروائي لم ينس شيئاً وهو يصور حياة البصرة الجميلة الوادعة التي أثقلتها الحروب، وفتكت بنخيلها القنابل، وقتلت الكثير من أولادها وسط الجبهات، او على الهوية (مثل ناز وعبد الجليل المياح وعيسى غضبان).
قراءة لواقع البصرة السياسي والاجتماعي
رواية عبد الزهرة زكي- الشاعر الذي نعرف- تقدم قراءة مهمة للتاريخ الاجتماعي والسياسي للبصرة الجميلة، التي هتكت وداعتها الحروب، وحولتها من ميناء متحضر تتجمع فيه الثقافات الى منطقة قتال وعذاب متصل، لكن الطيبة تبقى مناخاً لها ولأهلها.
رواية (غريزة الطير)، التي تتماهى مع رؤية فريد الدين العطار لا تقف عند منطقة، فالأصل أن الطير يمشي في الهواء مثلما(تمشي) السمكة في الماء و(نمشي) نحن البشر أينما تحركنا في البيت أو المسجد أو المكتبة أو نحو المعشوق او الى الحانة أو… الكل يمشي، لكن غريزة الطير هي أن يحلق.. تلك هي مشيته، لكنه إن أراد أن يتحرك دون تحليق في الهواء فعليه أن يقفز أو يناور خفية عن البشر، مطلقي السهام أو النار.
غريزة الحرية
شهود التاريخ الحي في الرواية هم: آدم زيني وفوزي الخير الله ونهال وسواهم، حتى (السكران) الذي كان يجاور الكلب ليلاً في الشارع الضيق ويحتسي مستمتعاً (الزقنبوت)، كانوا جميعاً يسعون الى الحرية.. كل بطريقته.
الجندي الذي كان يقاتل ليستشهد متخلصاً من حياة قاسية، والهارب من الحرب، الذي كان يسعى الى حريته الخاصة..
الكل سعى مثل الطير على وفق إرادته –هنا- لا غريزته، مع أن (آدم) يقول:
“أنا مثل الطير أحلق وأجرب أجنحتي وما أستغني عنها… بعد كل تحليق أغدو محكوماً.”
اختلفت المصائر وسط تاريخ عريض لمدينة هي الأولى في تاريخ الإسلام، التي بنيت خارج الحجاز في 14 للهجرة، قبل بناء (الكوفة) بأشهر، قبل بغداد بسنوات، وقبل الفسطاط والقيروان والقاهرة وكل الحواضر العربية الأخرى (باستثناء دمشق).
عهد التسعينيات
تبدأ تفاصيل الرواية بعد أحداث 1991حين يستمر الراوي الأساسي (فوزي الخير الله) برواية التفاصيل والحرص على زيارة صفيّه آدم زيني بعد رحيل والدته الدكتورة إيما هيرلي الى وطنها الأصلي (بريطانيا).
كانت الوالدة قد سافرت بعد خدمة طبية واجتماعية طويلة في البصرة، إذ غادرت مضطرة خشية اتهامها بالتجسس، وهي المحبة للبصرة وأهلها. كان اللقاء شبه يومي بين الصديقين، ولاسيما بعد وفاة والدي فوزي ورحيل شقيقته وزوجها الى السويد ومقتل زوجته نهال، الأستاذة في الجامعة، على يد السلطة الحاكمة.
كان اللقاء اليومي بين الصديقين مفتاحاً لحوارات متصلة عن البصرة ومجتمعها قبل الانتفاضة وبعدها، وعن الأصدقاء الراحلين الى المنافي، وهما يسعيان الى حصول فوزي على جواز سفر للرحيل عن وطنه بعدما فقد زوجته التي أعدمت من قبل السلطات لاتهامها بمعاداة الحكم.
وعلى الرغم من وجود تقاطع في مسار الحياة المقبلة بين فوزي وآدم، لكن الأخير كان يسعى لمساعدة صاحبه للحصول على جواز سفر لغرض الرحيل، برغم أنه كان متمسكاً بالبصرة وأسرارها وتاريخها الاجتماعي.
منطق القطيع
(غريزة الطير) ليست رواية عادية، كتبت لتزجية فراغ داخل إهاب شاعر يمتلك دفاتر عمل دوّنها كتجارب، فهي نسيج من حوارات وآلام تروى ووصف لصور امتهان المثقف من قبل سلطة وطنه، لأنه لا يريد أن يخضع لمنطق القطيع، ويفضل أن يكون مستقلاً فكرياً، لا خاضعاً مسلوب الإرادة.
رجل الحزب الذي اضطهد الدكتورة إيما هيرلي وحاصرها بالأسئلة والامتهان، وجد من يطرده من مركزه ويضعه بين صفوف الساقطين غير القادرين على التأقلم مع حياتهم الجديدة، كإنسان عادي انتزعت منه مخالبه فسقط مريضاً بـ (القلاب)، وعندما أدرك نهايته الوشيكة اعترف لابن الدكتورة إيما، وهو الأستاذ الجامعي (آدم)، بما كان يتصرف به مع والدته، طالباً الغفران الذي حصل عليه ظاهراً.. لكنه مات بعد هذا وهو يشعر بآثام ما فعل.
البصرة بيد المحتل
تمتد صفحات الرواية لتسير بنا الى ما بعد سقوط البصرة الوادعة بيد المحتل الإنكليزي، حينها هرب رجال السلطة السابقة. ويحاول الإنكليز عند زيارتهم بيت دكتور آدم إقناعه بأن يكون رئيس جامعة، أو عميداً، على أن (يتعاون) معهم من أجل البصرة، لكنه يرفض التعاون والحوار معهم إلا بواسطة مترجم، برغم أن دراسته كانت باللغة الإنكليزية.
كانت زيارة الإنكليز مراقبة ممن كان يقاوم الاحتلال ويظن أن (آدم) قد صار معهم، فأمطروا الدار الجميلة بالقنابل، ليسقط آدم وقد أصيب بجراح كثيرة وارتجاج في الرأس أفقده النطق ودخل في غيبوبة، ونقل الى مستشفى محلي، ومن هناك بطائرة مروحية إنكليزية الى الكويت، ومنها الى لندن ليحاط بعناية الوالد وشقيقته وصديقه فوزي.. حتى تعافى بعد مدة ليجد نفسه وسط أهله في بلاد الإنكليز.
كان آدم قبل العدوان عليه وعلى داره قد تلقى رسالة من حبيبته (ناز) التي كانت زميلة له في الكلية، تطلب منه العذر قبيل إعدامها في منطقة من مناطق كردستان بعد أن قبضوا عليها مع أصحاب لها من قبل عيون السلطة، وقرروا إعدامهم جميعاً بتهمة وأخرى من التهم الجاهزة، لكنهم سمحوا لها بكتابة وصية أو رسالة لمن تريد، فكتبت الى حبيبها البصري تطلب منه السماح للمصير التي ستجابهه دون ذنب، وترجوه أن يتزوج، مع حزمة عواطف سخية أبكت آدم قبل سقوطه إثر الانفجار الذي وقع داخل الدار وخارجها.
في الرواية الكثير من التفاصيل التي لا يحيط بها مقال قصير كهذا، إضافة الى مجموعة التفاصيل التي نتلقاها من مجموعة الرواة المتتابعين الذين يروي كل واحد منهم علاقته بـ (آدم) وتجربته الشخصية، لتتكون من كل هذه التفاصيل رواية (غريزة الطير)، التي أحاطت بالبصرة وتجارب المثقفين داخلها في زمن الحصار والمعارك والاحتلال الذي سبقته تجارب العلاقة الشائكة بين الفرد المستقل وحزب السلطة، وما جرى من وقائع صنعت من هذه الرواية تجربة حياة شاملة أحاطت بالبصرة وعذابات أهلها. في وقت وجدنا فيه (آدم) يشير الى زيارة الشاعر محمود البريكان الى داره للتعزية بوفاة والدته دكتورة إيما، مع استذكار لصوت الشاعر الحداثي رعد عبد القادر وهو يقاوم الأيام المترعة بالألم، ليصل بنا الى نهايته الحزينة كإنسان سقط مريضاً ثم توفاه الله لاشتداد الحزن الذي رافقه حتى وفاته.
الرواية لا تعطيك تجربتها الواسعة بسهولة، ففي كل فصل ومفصل منها هناك تجربة مكثفة في الحياة وقسوتها وانفراجاتها معاً. وبذلك نجح الروائي في تجسيد عمل بانورامي رائع يختلف عن سواه، ويقدم عبد الزهرة زكي في تجربة إبداعية تستحق التهنئة.