هل يمكن إحياء الشغف بالقراءة المعرفية؟

304

ضحى مجيد سعيد/
القراءة كيان مطل على الكثير من الأنشطة والفعاليات التي يكون الحال بعدها غير الذي قبلها، فهي تمنحنا المعنى والدليل والاستنتاج والنافذة على القدرات التحليلية إزاء ما يواجهنا في الحياة، وهي ذلك العالم الذي يوطئ ظهره لنا ليرتحل بنا الى أزمنة غابرة أو يستشرف بنا المستقبل، فضلاً عن جعلنا نعيش راهن الوضعين العام والخاص، القريب والبعيد.
عن أسرار القراءة، هل ما زلنا نقرأ؟ سؤال دار في ذهني وأنا أتجول في أربيل بكل تفاصيلها (قلعتها، أروقتها، شوارعها، أماكنها القديمة، وأيضاً الحديثة).
في مقهى(مجكو) المكتظ بالشباب، حيث يهيمن الدخان على أجواء المقهى، فوجئت في إحدى زوايا المقهى بشاب منعزل يتصفح كتاباً، هرعت إليه مسرعة وجلست بقربه بفضول فيه مشاكسة وسألته: ماذا تقرأ؟ قال: اسمي سعد، وأنا من بغداد أدرس في أربيل وأحضّر للماجستير، أما الكتاب الذي بيدي فهو كتاب يخص دراستي التي لها صلة بالشخصية العراقية، عنوانه (شخصية الفرد العراقي)، لعالم الاجتماع العراقي المعروف الدكتور علي الوردي. ثم سألته سؤالاً ثانياً: ماذا تضيف لك القراءة؟ أجابني بكل أريحية وهدوء: إن القراءة تضيف المعنى بطريقةٍ ما إلى الحياة، لكن لا يمكن انتظار نتائج منها بلا شرط المواصلة، إذ إنها كالغذاء والرياضة، أثرها يأتي ببطء، لكنه لا يرحل أبداً، الأمر معها أشبه تماماً بالأهمية المرجوة من وراء وجبة وحيدة مهما كانت مليئة بالعناصر الغذائية المفيدة، فإنها -برغم ذلك- تبقى غير كافية، كذلك ينسحب هذا على نتيجة التمرين الرياضي لمرة واحدة، فهو غير قادرٍ على منح الفائدة المأمولة من الرياضة، هكذا هي القراءة، عملية تراكمية وممارسة لا تعطي ثمارها إلا من خلال الاستمرار، والاستمرار فقط.
فيما يقول آزاد كريم، وهو من سكنة أربيل وولد فيها، إنه لم يعد يقرأ ويكتفي بالتصفح في مواقع التواصل الاجتماعي. أما شيركو فقال إنه لا يقرأ نهائياً ويكتفي بمتابعة (التك توك) لأغراض التسلية.
جولة في عقول الآخرين
بعد ذلك خرجت من المقهى لأدخل أحد المولات وانغمس مع الناس لاختار أحدهم وأساله عن القراءة وطقوسه فيها. وقفت عند بائع للملابس الرجالية، الذي لمحت على جانب مكتبه كتابين، وسألته عن اسمه وهل يحب القراءة؟ قال: اسمي عبد الله وأنا أحب القراءة، فهي نشاط مغذٍ للأذهان، بالإمكان اكتسابها بالتعوّد، وهي نافذة تحظى بإمكانية تخطي المرء حتى حدود ذاته، ومن شأنها دائما أن لا تحسن من الفرص في الحياة فحسب، بل تخلقها أيضاً، إذ إن وتيرة اكتساب الفرد المهارات والأدوات المعرفية والتحصيل المعرفي، وقبل ذلك نسق التكوين الثقافي، تزداد اتساعاً وعمقاً كلما زاد تعليمه وتجربته وخبراته في الحياة، فما بالك إذا ما كان هذا الفرد قارئاً بالمعنى الوظيفي للقراءة؟ وهنا أوقفت سرده الجميل في الإجابة لأسأله عن المعنى الوظيفي للقراءة: ماذا سيكون عليه حجم الفرص التي أمامك بعد توظيف القراءة وجعلها رافداً تنهل منه، ولاسيما أن القراءة تمنح أكثر من حياة من خلال التجوّل في عقول الآخرين، بالإضافة إلى أنه قد ثبت عنها -إما عبر الدراسات أو النماذج الحية- أن لها أثراً وإضافة على مستوى الذكاء، والتركيز، وإثراء المخزون اللغوي، والمعرفي، والتفكير الإبداعي، وفوائد غيرها عديدة تنعكس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على كفاءة الفرد وطاقته وقدرته؛ ومن هنا تتطور الفرص أو تُخلق.
وأضاف أنه مدرس إعدادية، يعشق مهنته ويحرص دائماً على تطوير مهاراته عبر القراءة. شكرت الأستاذ عبد الله وذهبت لأكمل مسيرتي بحثاً عن قراء جدد، لكن دارت في ذهني تساؤلات جديدة وتحليلات لمشهد القراء والقراءة لم تطرأ على بالي سابقاً، منها أننا ينبغي علينا أولاً أن نسعى لتصحيح موقع القراءة في حياتنا.
وتابع عبد الله: القراءة ليست هواية كما هو معروف وشائع، بل إنها ضرورة لابد منها، القراءة ليست ترفاً يملأ المرء فيه وقت فراغه، وإنما هي أداة المعرفة الأولى التي تبني فكر الإنسان وقيمه وسلوكه، وإلا لما كانت هي الكلمة الأولى التي نزلت في وحي السماء على خاتم أنبياء الله ورسله، بالقراءة تنمو مدارك الإنسان، ويكتمل وعيه، وبها يتحصّن لمواجهة الجهل والخرافات والأوهام، من خلالها يعرف أخبار الماضي وما كان فيه ليتلمس منها المواعظ والعبر والدروس، ومن خلالها أيضاً يكتشف أحوال حاضره وما يدور حوله، ومن خلالها أيضاً يستشرف مستقبله ويخطط له.
طلبة لا يقرأون الا مناهجهم
هواجس عديدة تراقصت في ذهني، إلى أن وجدت نفسي أمام كلية أهلية (لا أريد أن أذكر اسمها لكيلا يكون ذلك ترويجاً)، عرّفت نفسي لمسؤول العلاقات وأخبرته بمهمتي، فسمح لي بالدخول، وهنا وجدت ضالتي الحقيقية، ساحة الكلية ملأى بالطلاب والطالبات، نشاط وحيوية وإقبال على القراءة والاجتهاد، فبدأت بطرح الأسئلة، واخترت طالبة منكبة على قراءة ملزمة في يدها: ماذا تقرئين؟ قالت، ملزمة خاصة بمادة منهجية. ثم سألتها ثانية: هل تقرئين كتباً خارج الكتب المنهجية؟ قالت: لا، فقلت لها: ولماذا؟ ردت: ليس عندي وقت كاف. أكثر من عشرة طلاب توافقوا على هذه الإجابة وكأنهم متفقون عليها، بعدها قررت توجيه الأسئلة الى الأساتذة لمعرفة تعليقهم على أجوبة طلابهم.
تقول الدكتورة هدى عمار: ينبغي أن تُكثّف الجهود من جميع الجهات، حتى الأفراد المهتمين بذلك، لرفع مستوى الوعي بوظيفة القراءة، وخلق حالة ثقافية عالية المستوى، بهذه الكيفية نفسها، أو بطريقة مشابهة، يكون تحفيز المجتمع ودفعه نحو استشعار أهمية القراءة ووظيفتها والوعي بها. أضافت: لا شك في أن الحضارات لا تقوم إلا على جهد الإنسان، وأن الأمم لا ترتقي إلا بعزيمة أبنائها المزودين بالعلم والمعرفة، والقراءة أولى أدوات العلم والمعرفة، وعلى الرغم من تطوّر وسائل التعلم وتنوعها وانتشارها، ما زالت القراءة أهم وسائل التعلم وأيسرها لاكتساب العلم المعرفة.