رنا جعفر ياسين: ” تطوير الذات والتشافي من الصدمات” نقلني إلى عالم المعرفة
حوار/ علي السومري
شاعرة وإعلامية وفنانة تشكيلية، صدرت لها خمسة كتب شعرية: (طفولة تبكي على حجر)، و(مسامير في الذاكرة)، و(مقصلة بلون جدائلي)، و(المدهون بما لا نعرف)، و(للغواية قواميسها ولك احتمالات البياض)، ونص مسرحي بعنوان (إبادة مستعارة)، ومجموعة قصصية بعنوان (شهية طازجة). حصلت على العديد من الجوائز، وهي منشغلة اليوم بمشروعها الجديد (قوة الحياة للتشافي من الصدمات).
إنها رنا جعفر ياسين، التي كان لنا معها هذا الحوار لتسليط الضوء على منجزها الإبداعي، حوار ابتدأناه بسؤال:
* من الهندسة إلى التشكيل ثم إلى الشعر، هل تصمم رنا وتنسق قصيدتها قبل الشروع بكتابتها؟
– العمارة أسستني، وهي عالم من الخيال والابتكار والتجديد مستقل بذاته، قابل للتداخل مع عوالم الأدب والفن بخصوصية مذهلة. في عالمي الخاص امتزجت عوالم العمارة بالكتابة والتشكيل شكلاً ومضموناً في تناسق متعدد المستويات. مع هذا أشعر أن بداية الألفة مع الخيال والخلق الإبداعي بدأت وتشكلت في فضاء العمارة. تلك الروح الكاسرة للقوالب، الخالقة للفضاء ومفرداته، الإحاطة بفلسفة الفكرة، التشذيب، مركزية الحدث وتطوراته، المؤثر والأثر، تشكيل المعنى وعلاقته بكل ما يسبقه أو يليه… كلها بدأت وترسخت فيّ من خلال دراسة العمارة، لكنها نضجت وانفتحت على وجهات أكثر مع تداخل العوالم الأخرى التي أعطتها غايات ووسائل أكثر. مع هذا، أنا لا اكتب بقصدية تصميم النص أو رسم صوره الشعرية، فهي تظهر بشكل تلقائي من خلال المعرفة التراكمية، ابتداءً من دراسة العمارة مروراً بالقراءة المستمرة وتغذية الفكر والروح وتعميق التجارب الحياتية التي أعيشها بعين وقلب مفتوحين على الدوام، لأراكم خبرتي ووعيي المعرفي. كل هذا ينعكس على التجربة الإبداعية التي هي نتاج آني للحظة والمكان والحدث ذاته.
روح حرة
* مرّت سنوات طوال منذ آخر إصدار شعري لكِ، ما سبب عزوفك عن طباعة مجموعة جديدة؟
– هذا صحيح، إذ إن آخر مجموعة شعرية لي (للغواية قواميسها، ولك احتمالات البياض) كانت أواخر عام 2012 في القاهرة. بعدها غادرت إلى الولايات المتحدة. وهناك واجهت تحديات كثيرة في تعلم اللغة الإنجليزية، التي أخذت مني ما يقارب الأربع سنوات حتى تمكنت من أجادتها، بل وأيضاً كتابة نصوص شعرية بها، وترجمة قصائدي العربية إلى الإنجليزية. خلال هذه الفترة كنت أكتب بشكل متقطع. ثم عدت إلى الكتابة بانتظام أكثر وأنجزت مجموعتين شعريتين باللغة الانجليزية لم أطبعهما حتى الآن. في النصوص العربية كتبت أكثر، فلدي الآن 3 مجموعات شعرية أسعى لطباعتها قريباً. إتقان الإنجليزية وكتابة الشعر بها غيّر كثيراً من طريقتي في تقصي الخيال والكتابة، إذ أرى أن ذلك أنضج كثيراً رؤيتي الشعرية وقراءتي لعالم الخيال، أشعر أنني صرت أعيش الخيال بعين ثاقبة، أكثر تحديداً للمغزى وتجلياته، بأدوات أكثر وضوحاً وسلاسة.
تجربة السنوات الماضية في الولايات المتحدة منحتني أيضاً بعداً آخر في التجربة الحياتية من خلال الدخول أكثر إلى بواطن النفس البشرية والتماس المباشر مع تحولاتها، وهي تنضج أو تنكسر، حينما درست في مجال (تطوير الذات والتشافي من الصدمات). ولأنني دائماً أقول إن التجربة الإبداعية هي نتاج التجربة الحياتية الخاصة والعامة للإنسان، كنت أعيش هذا التفاعل والامتزاج بمعطيات الحياة الجديدة وهي تنصهر وتتشكل عندي لإضافة بعد آخر إلى رؤيتي للحياة. أحياناً نحتاج إلى أن نتوقف من أجل إعادة تقييم المنجز الإبداعي بغية تطويره لكي يبقى حياً وحيوياً حتى اللحظة الراهنة. ولاسيما أنني أسعى دوماً ألا أكرر نفسي في الكتابة، وأتقصى مناطق بكراً جديدة للتجريب في النص الأدبي، وأن تكون تجربتي انعكاساً لداخلي وخارجي. الروح الحرة جداً التي تتملكني تسعى دوماً لكسر القوالب الجاهزة، وترتبك من التكرار ومن الابتعاد عن الجوهر. لهذا كان هذا التوقف مثمراً لتجربتي الإبداعية.
انحسار الشعر
* ما رأيك بمن يقول إن الزمن اليوم في العراق زمن الرواية لا الشعر؟
– ليس فقط في العراق، الزمن الآن زمن السرد عموماً. مشكلة الشعر ومنذ سنوات طوال تكمن في المسافة المتزايدة بينه وبين القارئ، وكنت قد تحدثت عن هذا كثيراً. الشعر في العالم العربي ينحسر فقط من وإلى النخبة، لماذا؟ لأننا في قطيعة عميقة بين الشاعر والمتلقي. الشعر عربياً مر بتحولات دراماتيكية خلال العقود الأخيرة، سرعة التطور في المنجز الشعري على مستوى الشكل والمضمون أراها مذهلة حقاً، إذ إن النص الشعري اليوم أكثر حيوية وحياة من النص الكلاسيكي، لكن! ذائقة الإنسان الاعتيادي تأسست على المنجز السابق، حيث أنظمة التعليم ما زالت تخصص الأدب لمنجز العرب الكلاسيكي ولا تعير الأهمية المطلوبة لتطورات الأدب العربي، الشعر خصوصاً. هناك قصور في علاقة الإنسان العربي بالكتاب وقصور أكبر في فهم الإنسان العربي للشعر المعاصر. أرى أن سبب هذه القطيعة هو نظام التعليم وضعف دور الإعلام الثقافي في مواكبة تطورات القصيدة العربية في يومنا هذا. لهذا أصبح السرد أكثر ملاءمة لمن يحب القراءة، لأنه أصبح متوافقاً مع إدراك الإنسان المحب للقراءة، اللامنتمي إلى نخبوية القصيدة المعاصرة بسبب ما ذكرت آنفاً.
قوة الحياة
* تخوضين اليوم تجربة تتمحور حول تطوير الذات والتشافي من الصدمات، وهي موضوعة مهمة، خاصة في مجتمعنا الذي خاض حروباً عبثية، وعانى حصاراً اقتصادياً قاسياً بسبب سياسة الطاغية، هلا حدثتِنا عن هذا المشروع؟
– دراستي في مجالات اكتشاف وتطوير الذات والتشافي من الصدمات غيرت حياتي بالكامل، ونقلتني إلى عالم غزير من المعرفة والإدراك والاكتشاف الخلاق. أتمنى أن يخوض هذه التجربة كل إنسان، وأن تكون هذه المعرفة متاحة للجميع، لما لها من أهمية بالغة في تطوير مهاراتنا الخاصة في التعامل مع تحديات الحياة، واكتشاف مكامن القوة في الإنسان. كلنا أقوياء وكلنا قادرون. الحياة فرصة يومية للتطور وتحقيق انتصارات صغيرة وكبيرة على تحدياتها.
جذبتني أكثر دراسة مواضيع حساسة ذات أهمية لواقعنا ومجتمعنا في هذا المجال الواسع، ألا وهي منطقة التشافي من الصدمات بعد الحروب والكوارث. إن اكتشاف وتطوير الذات يمنحنا أولاً فرصة لمعرفة أنفسنا، معرفة نقاط القوة ونقاط الضعف، معرفة ما حققنا وما انكسر في أعماقنا، معرفة الألم الذي مررنا به وما تركه في أرواحنا مهمة جداً بقدر معرفة الفرح الذي عشناه وما حققناه من إنجازات. الإنسان خليط من التجارب، وكلها تترك أثراً فينا.. تبنينا، تكسرنا، وتصقل قدراتنا إذا ما تعلمنا كيف نواجهها. ولكوني عراقية مرت بتحديات الحياة من الفقد والحرب والكوارث المؤلمة، أردت أن أعرف أكثر عن عالم تطوير الذات والتشافي. أردت أن أتعلم مهارات تمكنني من إمساك مواطن القوة وعلاج جراح الروح. كان حلمي أن أطبق ما تعلمته في حياتنا العراقية. كيف تكون قصتنا الذاتية مصدر قوة لنعرّف أنفسنا كناجين لا ضحايا؟ كيف نحتفل بأننا ما زلنا أحياء؟ وكيف نحلم بحياة قادمة يعمها الأمان والسلام الداخلي؟ كيف نشفي جراح الحرب والكوارث التي مررنا بها؟ كيف نكون صنّاعاً للتغيير وبناة للسلام؟ كلها أسئلة قادتني إلى حلم أكبر: أن نحتفل بما أسميه (قوة الحياة)، وهذا هو مشروعي الإعلامي والإنساني.. الحلم. فهناك من يرى أن الحياة محنة، وهناك من يراها ساحة تحديات لتحقيق النجاحات والتفوق على اختباراتها. حلمي أن أتمكن من خلال الإعلام وعملي الإعلامي أن أقدم هذا النوع من المعرفة حتى تكون متاحة للجميع. منذ فترة وأنا أعمل على تعزيز مفهوم إعلام متخصص، توعوي، بناء وهادف يرسخ للتحفيز والإلهام، موجه إلى مجتمع مر بحروب وكوارث إنسانية كي يزدهر وينعم أبناؤه بإنجازات ونجاحات وحياة آمنة في الحاضر والمستقبل.
تغيير ايجابي
* كنتِ وما زلت من الإعلاميات المميزات في الساحة العراقية، ما الذي منحك إياه هذا العالم، وما الذي سلبه منكِ؟
– تعلمت أن صوتي يجب أن يحدث فرقاً أكثر من خلال الإعلام وأن ما نقوله ونفعله مسؤولية إنسانية تصنع التغيير الذي نريده. فمن خلال الإعلام نصل أبعد في التأثير، وهذا يجعلنا وسيلة لغاياتنا الإنسانية العظمى. نحتاج أكثر إلى دعم المحتوى الإعلامي الهادف والبناء، فالكفاءات موجودة، وهنا تقع على عاتق المؤسسة الإعلامية أهمية توظيف هذه الكفاءات ووضعها في مكانها المناسب. مسؤولية الإعلام كبيرة وعميقة، إذ إنه يؤسس بشكل فعال وعي المجتمع، وبإمكانه في هذه المرحلة المهمة من بناء الوطن أن يسرع عجلة التغيير الإيجابي. الإعلام أضاف لي كثيراً وأخذ مني متعة مزاولة عمل آخر.
* ماذا عن شغفك الآخر، التشكيل، أين وصلت مشاريعك فيه؟
– في التشكيل أقدم نفسي كهاوية لا محترفة. وما زال العمل الفني الذي أنجزه ينتمي إلى حيزي الشخصي والخاص. اللوحة تشبه القصيدة في مسبباتها ومحفزاتها، إذ أسعى لتجلي ما أراه ببصيرتي وأستشعره في مخيلتي، لكنه لا يباغتني كثيراً مثلما تباغتني القصيدة. القصيدة تحتلني بشراهة وتفرض نفسها بقصدية. أنجزت أكثر من ١٥٠ عملاً فنياً ما زلت أحتفظ بها لنفسي. أيضاً زاوجت مراراً بين اللوحة والقصيدة، وغالبية أغلفة كتبي الشعرية من لوحاتي، كما أن كتابي الشعري (المدهون بما لا نعرف) ضم تخطيطات من أعمالي. اللوحة مستوى آخر من التعبير، بصري قابل لتأويلات كثيرة، يشبه بطاقة بريدية خرجت للتو من مغلفها. أقول دائماً إن القصيدة واللوحة وجهان من أوجه عالمي الإبداعي في الخلق والتجريب.
تجربة مذهلة
* حصلت على جائزة الشارقة للإبداع العربي في المسرح عن مسرحية (إبادة مستعارة) عام 2009، لماذا لم تواصلي الكتابة في هذا المجال ولاسيما أننا نعاني -بحسب المختصين- من ندرة النصوص العراقية؟
– تغريني العوالم الجديدة لاقتحامها، وهذا ما حدث معي في المسرح. كانت تجربة مذهلة أن أنقل النص إلى فضاء المرئي والمسموع والمحسوس، وأراه حياً ومتحركاً، خاصة وأني من عشاق المسرح، الذي أراه سحراً خالصاً يجسد الحالة الإبداعية صوتاً وصورة. لم أقصد كتابة المسرحية بقدر ما كتبت هي نفسها من خلالي. رأيت فضاء كاملاً من المفردات وروحاً تتحرك وتتحدث وتتصاعد نيرانها مع حدثها (الحرب)، فكتبتها، وكانت خشبة المسرح الفضاء الحر لتقمص تداعيات تلك الشخصية في زمانها ومكانها ذاك.
* ما جديدك؟
– انتهيت للتو من كتابة مشروع شعري جديد يغزوني بنهم، وهو كتابة نص شعري متعدد الأبعاد، يتضمن 100 مقطع شعري، يهدم مركزية النص الشعري المعتاد، ويخلق مركزيات مستقلة في كل مقطع، سيرى النور قريبا. أعتقد بأنها تجربة جديدة وجريئة في الكتابة والرؤية.