سوق الكتب.. بين العرض والطلب

911

ياسين النصير/

كي نجعل من الأدب مؤسسة ثقافية، قائمة على بنية معرفية يمكن الاستشهاد بها عند وضع أية خطة تنموية، لابد من مبدأين يلازمان أي تصور، هما: الإحصاء والاستفتاء، فعن طريقهما يمكننا تلمس حقائق ما يجري على الواقع.
شارع المتنبي

إن من يشاهد حركة الناس يوم الجمعة في شارع المتنبي، يشعر بالغبطة أن آلافاً منهم تقصد الشارع الثقافي لا لتنظر لخارطة الكتب الملونة وقد ملأت الأرض، ولا للتصافح مع وجوه الأصدقاء والغرباء، إنما لتغذية الروح الخفية لحواسنا المجسدة برغبات القراءة والاكتشاف والبحث وتحقيق ما ننشده، هذه الجولة المزدحمة توضح لنا الكيفية التي تحتل الكتب فينا مساحة من الوعي بأهمية الثقافة، وحتى لو بدت هاتان المفردتان “الإحصاء والاستفتاء” بعيدتين عن أغراضهما الأدائية المتعارف عليها، إلا أنهما مؤشران إلى الترابط بين وعي القراءة ووعي الكتابة.

ففي المجتمعات المنظمة تنظيماً علمياً، لا يُفكَّر بالأدب والإبداع ومن ثم بالثقافة، إلّا من خلال دراسات ميدانيّة قائمة على استبيانات لأهمية القراءة والكتابة، وماذا يجب أن تقرأ الأجيال الجديدة، وما هي متطلبات القارئ المعاصر، وكيف يصل الإنتاج الثقافي لقطاعات واسعة من الناس، وهل يتوجه المنتج الثقافي للرجال أم للنساء، للأطفال أم للشبيبة، لكبار السن أم لمتوسطي الأعمار؟

كل هذه الحقول القرائية هي ميدان بحث واستنطاق ودراسة من قبل المؤسسات المعنية بتطوير المجتمعات المدنية، لأنها هي من يقرأ، وهي من يستهلك، وهي من يفكر، وهي من سيخرج من بينها المؤلف والكاتب والفنان والمعماري والرياضي والفيلسوف والمجرم. وترافق هذه الاستفتاءات والاستطلاعات بنية معرفية أكاديمية، سواء لمادة ونوعية الأسئلة التي تحتويها الاستمارة، أو لمحصلة سابقة تشكل أرضية علميّة لاستفتاء أو استطلاع جديد. وعندئذ لا يغيب الحس الأكاديمي لدى مراكز البحوث والقائمين بالعمل، بالرغم من أنهم ليسوا أكاديميين بالضرورة، لتبيان وجهات نظر مجتمعية مختلفة في قضية ثقافية أو سياسية أو إنسانية.

كرنفال

ما نحتاجه في العراق، ونتيجة لملاحظاتنا على ما يحدث في شارع المتنبي، أو شارع الفراهيدي في البصرة، هو شيء ليس جديداً، ولكنه يعيد طبيعة احتفالية الشارع عندما يكون ضمن تصور وعي قطاعات واسعة من الناس، فارتباط الشارع بالثقافة، يعيد تشكيل ثيمة العيد والكرنفال والاحتفالات الصغيرة، وتعدد المناسبات، إضافة إلى المتعة والحركة وتبادل الرأي والبحث عن متطلبات العقل، ربما أخصص العراق بالاستفتاء نموذجاً في هذه الحال الكرنفالية، لسعة القراءة فيه، وهذا شيء ملموس لأي متابع لنشاط السوق الثقافية، وهي ترفد القراء بالجديد والمفيد والتي تؤكد بوضوح وبدقة أن السوق العراقية للقراءة هي أفضل الأسواق العربية، ربما لتأريخ العلاقة مع الكتابة والثقافة بجذرها اليساري التنويري، وربما لأن القارئ العراقي مجبول على التجديد والتجاوز واكتشاف محيطه المعرفي، بالرغم من قلّة موارده المالية، وضعف ثقافته الجامعية، وهيمنة السلطات التي توجه قراءاته أحياناً، أقول بالرغم من ذلك كله، نجد أهمية قصوى لاستفتاء القارئ العراقي بين آونة وأُخرى، لأخذ رأيه بما يُنشر، وبما يُقرأ، وبالكيفية التي يحصل على الكتاب بها، هل يتم ذلك بوساطة صديق قارئ سابق، أم بوساطة استطلاع ما عن بعض الكتب، أم عن طريق ما ينشر في الصحافة، أم نتيجة للجوائز، أم للدعاية، والعلاقات الاجتماعية.

شارع أنجب شوارع

هذا الأسلوب في معرفة الطريقة التي يحصل القارئ بها على الكتاب مدخلاً مباشراً لتأكيد أهمية توجه على آخر، فكثيراً ما سئلنا ونحن في بلدان الغرب عندما نشتري بضاعة ما عن أية طريقة عرفت أننا نبيع هذه البضاعة؟ ويحتم عليك القول، عن طريق الإعلانات الورقية، أو الصحافة، أو التلفزيون، أو المعلومات العامة، هذه الأرضية الواسعة لاستبيان رأي الناس بالكيفية التي عرفوا بها البضاعة، واحدة من أساليب العلاقة التي تتجذر بين السوق والمستهلك. وتصرف المؤسسات المعنية ملايين الدولارات على توسيع دائرة الإعلان وانتشاره، ولأسباب كثيرة أخرى جعلت الثقافة وطرق انتشارها من شارع المتنبي مولداً لشوارع ثقافية كثيرة في المدن العراقية: البصرة، الحلة، الكوت، ميسان، النجف وغيرها. والقارئ المعاصر إذ تتسع خطواته الباحثة عن الجديد بحاجة إلى توثيق العلاقة مع مصادر الكتاب وتنوعه، بحيث لا يجد قطيعة مع الكتاب الجديد والقديم أيضاً، مهما كانت مواطن سكناه وأعماله الوظيفية.

مهمة مؤسسات

يعاني الكتاب العراقي من شحّ في المعلومات التي تصل للقارئ، لدرجة أنَّ الكثير منا يبحث عن الكتاب ليس بدافع من الاستفتاء والخبرة، إنَّما من الأخبار التي يتداولها البعض منا للآخر، وغالباً ما أذهب شخصياً لشارع المتنبي دون معرفة ما سوف أشتريه، لأنَّ أيَّ إعلان يوصل معلومة عن الكتب الجديدة مفقود من ثقافتنا، في حين أنَّ هذا البحث المشفوع بعدم معرفة ما تشتريه مضيعة للوقت وللجهود، وقد يفوتك كتاب أو مجموعة كتب وهي متوفرة بالسوق ولكنك لا تعرف عنها شيئاً.

القارئ العراقي، وبعد ثورة الشارع الثقافي، وما نلمسه من تأثير إيجابي على الإنتاج الثقافي، بحاجة ماسة إلى المعرفة الإعلانية عن مصادر الكتب، عن رأي الشارع بما يكتب، وما يقال، فمثل هذا الرأي مقياس من مقاييس المجتمعات المدنية، وهذه المهمة لا تقوم بها إلّا المؤسسات الثقافيّة التي تسعى لتعميق صلتها بمراحل البلاد المستقبلية.