سوق السراي.. ذاكرة شعبية شاهدة على متغيرات الحياة البغدادية
عبد الجبار العتابي /
بالرغم من ضيق مساحته إلا أن سوق السراي واحد من أشهر أسواق بغداد، المميز باسمه ورسمه وموقعه وتاريخه الممتد الى اكثر من 350 عاماً، ومن ثم خصوصية البضاعة التي تباع فيه حالياً، وهي القرطاسية، حيث أصبح قبلة أهل المدارس من مختلف الأنحاء، وصار محط إقبال كل من له علاقة بالأوراق والأقلام والألوان والمواد المكتبية وسواها من الأدوات الداخلة في مجال القراءة والكتابة والدراسة والإدارة والرسم بشكل عام.
وقد حظي السوق عبر مراحل حياته بشعبية كبيرة كونه يضم تراثاً ثقافياً شعبياً محبباً لأهل بغداد تحديداً وذاكرة تنطق بالكتب والمكتبات وبالأسماء والحوادث والمتغيرات. وإذ كان له زمان ابتهج فيه بكتبه ومكتباته وأيام أنسِه وجلّاسِه، فقد مرّ عليه زمان آخر ضعف فيه شأنه خاصة بعد أن ازدادت أهمية شارع المتنبي الثقافية فتحول السوق تدريجياً الى دكاكين للقرطاسية.
في الوقوف على أحد بابي شارع سوق السراي، سواء الشمالي او الجنوبي، لا تشاهد سوى شارع ملتوٍ ضيق توزعت على جانبيه دكاكين صغيرة لبيع مواد القرطاسية والكتب المدرسية والصور التراثية وانتشرت فيه (بسطيات) المجلات القديمة، وصناديق او معارض زجاجية صغيرة لمصلّحي أقلام الحبر (الباندان) الذين يدهش الناظر إليهم إصرارهم على حرفتهم على الرغم من قلّة مستخدمي هذه الأقلام التي كانت رمزاً للأناقة لدى العراقيين. دكاكين صغيرة، لكنها مفعمة بالحيوية وجميلة المنظر ببناء واجهاتها الحديث حيث تمت إضافة بناء من الطابوق المثقّب (الجمهوري) بجانب البناء القديم بالطابوق الأصلي، فيما سقف السوق العالي من (جينكو الفايبر كلاس) الأبيض يمنح المكان ضوءاً وأًجواءً بهيجة، وقد تم تأهيل السقف بعد عملية إعادة إعمار السوق عام 1992 فارتفع علوّه ليكون بشكل أفضل، فيما تم تبليط الأرض بالكاشي بعد ان كان بالإسفلت، ولا يتعدى طول الشارع 300 متر ولايزيد عرض ممر المشاة فيه عن ثلاثة أمتار. ويمكنك وأنت واقف تتأمل المشهد أمامك أن تفرح مع الصبيان والصبايا الذين يبتهجون بطموحاتهم فيه وتستمع لترانيم الأهالي وهم يطلقون أناشيد حنانهم لأبنائهم للتبضع بما شاءوا. وحين تمشي في شارع السوق تتراءى لك الألوان محلقة بجمالياتها على الجانبين، عوالم من أدوات مدرسية في أغلبها، تنوعت وواكبت تطورات العصر وكل جديد، فيما لايزال يحتفظ بالأشياء القديمة التي تمتلك خصوصية النكهة التراثية، حتى في الذين يفترشون الأرض لبيع مجلاتهم وكتبهم القديمة والكتب المدرسية ايضا وقد صارت مصدر رزقهم. ولا يمكن لعابر من هناك ان لا يلتفت الى المكان الذي كان يشغله (أبو علي)، بائع الكتب الذي لا يقرأ ولا يكتب! الذي أمضى 60 عاماً من عمره في كسب رزقه من هذا المكان!(توفي عام 2014)، وكان مشهده لافتاً وهو يقبع وسط مجلاته وكتبه، فصار علامة فارقة لسوق السراي، مثلما يرغمك المشهد ان تستحضر الأعداد الهائلة من الناس التي مرت على هذه المساحة الصغيرة من الأرض عبر أزمنة مختلفة، حيث ترى كتباً على مد البصر داخل أروقة الدكاكين وتقرأ على الواجهات أسماء مكتبات على لافتات بسيطة بحروف أنيقة، بل وتجد أن هذه المكتبات ما كانت إلا صالونات أدبية راقية تعقد فيها جلسات أدبية يحضرها أشهر الأدباء والساسة العراقيين في أزمنة كان فيها الكتاب هو الأقرب الى النفس، وهذا ما كان يغري من يزور العراق من الشخصيات المعروفة أن يكون سوق السراي إحدى محطات اهتمامهم، ومن هؤلاء كان الشاعر الهندي الكبير(طاغور) في الثلاثينات من القرن الماضي، وكذلك المستشرق لويس ماسيون، مثلما كان للأديبة المصرية عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) حضور وكذلك أحمد حسن الزيات وابراهيم المازني فضلاً عن الأدباء العراقيين. ويمكن التغني بما قاله الشاعر الفلسطيني المتوكل طه فيه: (ويكون في سوقِ السَّراي قد اشترى/ سِحْرَ الطّيوبِ لنابضي الخَفَّاقِ).
وكلمة (السراي) كلمة تركية ذات أصل فارسي (سراي) تعني (القصر)، وشاعت التسمية في العراق وبلاد الشام لتشير إلى المحلات أو الأحياء السكنية التي كانت تقع فيها القصور الحكومية لفترة الحكم العثماني.
موقع السوق
يقع السوق ضمن محلة بغدادية قديمة اسمها (جديد حسن باشا) هي الآن تحمل اسم (محلة الرشيد 114) حسب التسميات الجديدة التي أطلقتها أمانة بغداد. ويقول الدكتور عماد عبد السلام رؤوف في كتابه (معالم بغداد في القرون المتاخرة) : إن شارع السراي هو شارع جديد حسن باشا نفسه، وهذه المحلة الضاربة في عمق التاريخ البغدادي لم تعد تمتلك مؤهلات المحلة السكنية، وقد دارت عليها دوائر الأزمنة فتحولت الى محال ومخازن تجارية وتغيرت أحوالها. موقع السوق في رصافة بغداد على مقربة من شارع الرشيد، ويمتد من رأس الجسر القديم، وهو مكان جسر الشهداء اليوم، وحتى شارع المتنبي من جهة السراي الحكومي، لذلك تؤكد المصادر التاريخية أن تسمية السوق كانت مقترنة بوظيفته الجغرافية ولم يكن حتى ذاك الوقت قد امتلك شخصية سوق المكتبات والوراقين، بل كان معنياً بالخدمات المرتبطة بأعمال الموظفين والمراجعين لدوائر الحكومة، ومنها مبنى متصرفية لواء بغداد مقابل القشلة.
تحوّلات السوق
مر سوق السراي خلال تاريخه بالعديد من التحولات، وهو يتألف من فرعين الأول من جهة النهر وهو الجزء الملاصق لجامع الوزير، وكان في أواخر العهد العثماني مختصاً بالجلود ويسمى سوق السرّاجين، إذ أن السوق في بداياته كان بمثابة محطة استراحة للقوافل المحملة ببضائع المسافرين، ويتألف من طابقين، فالطابق الأرضي عبارة عن مربط للخيول، أما الطابق العلوي فكان عبارة عن غرف لنوم وراحة المسافرين القادمين من مدن العراق المختلفة، وقد تحولت تلك الغرف فيما بعد الى سكن للطلاب الذين يدرسون في المدرسة المستنصرية قبل أكثر من مئة عام. ويتميز هذا الفرع بسقفه من الطابوق بـ (العقادة الحصيرية) من دون (شيلمان) وما زال المكان يزخر بدكاكين لتجليد الكتب والصناعات الجلدية البسيطة والقرطاسية ايضا، وهو أقصر من الفرع الثاني الذي يجاوره ويرتبط به بالممر الصغير (نحو أربعة أمتار)، والذي تحول الى سوق لبيع التبوغ في أواخر العهد العثماني وسمي بسوق (التتنجية) ثم تحول تدريجياً الى الكتب والقرطاسية. وتشير المصادر الى أن (الملّا خضر) صاحب اول مكتبة افتتحت في سوق السراي يعود له الفضل في تحول السوق من التبوغ الى أكبر سوق للكتب في بغداد. وقد شهد المكان تنافساً شديداً بين الكتبيين وأصحاب حرفة الجلود وأصحاب حرفة القرطاسية في السيطرة على السوق، وهناك من يرى أن هنالك فرعاً ثالثاً يتفرع من السراي هو سوق الذهب الذي اندثر خلال السنوات الأخيرة، ويقول البعض إن الملا خضر أسس مكتبته التي تحمل اسم (الزوراء) في عام 1870م تيمناً بجريدة الزوراء التي أصدرها الوالي مدحت باشا في حزيران عام 1869، ويؤكد المؤرخون أن الملا خضر سُمي (عميد الكتبجية) و(شيخ الوراقين) وكان يتداول الكتب القديمة من المخطوطات والمطبوعات حجرياً وبعض الصحف، ويرى المؤرخون أن النقلة الكبيرة للمكتبة كانت عندما بدأ الملا خضر باستيراد الكتب المصرية والإيرانية حيث اكتسبت المكتبة أهمية كبيرة ومن ثم زادها باستيراد الصحف والمجلات، ومن بعد وفاته ازداد عدد المكتبات.
السوق في عشرينات القرن العشرين
ومن خلال ما كتبه الراحل عباس البغدادي في كتابه (بغداد في العشرينات) يمكن التوقف عند العديد من الإشارات الملونة التي كان عليها السوق قبل نحو مئة عام، فهو يؤكد أن السوق ينقسم الى قسمين، حيث يتجه القسم الاول الى عبور الجسر القديم نحو سراي الحكومة (القشلة) والمحاكم، ويمكن قراءة واقع حاله آنذاك من خلال المهن، حيث يشتهر بالدكاكين الموجودة في رأس السوق والمختصين بكوي الطرابيش وهم من اليهود أشهرهم (يونا) الطويل القامة العريض المنكبين، ومن ثم (الأسطة مجيد) أحسن صانع أحذية من المسلمين حيث كان اليهود هم المشهورين بصناعة الأحذية، ثم هناك فندق (الحجي رشيد) أشهر وأمهر طباخ في بغداد، ومطعمه خان كبير بمواجهة فتحة سوق السراجين، ومن ثم مخزن الإيراني محمد كاظم رضا أول من باع أقلام الحبر الباندان وشيَش الحبر علامة (سوان)، وهناك دكان ابراهيم السدايري الذي أخذ هذا اللقب لأنه أول من صنع السدارة من القماش ثم سوق الصاغة ثم المكتبات الأربع المشهورة وهي المكتبة العربية لصاحبها نعمان الأعظمي والمكتبة العصرية لصاحبها محمود حلمي ، ثم مكتبة عبد الأمير الحيدري ومكتبة عبد الكريم خضر. وفي أواخر العشرينات جاء الى السوق من النجف عبد الحميد زاهد وإخوته بمكتبة جديدة، وفي نهاية السوق بائع شربت الزبيب الذي كان يستقطر الشربت من كيس المرعز المعلق في سقف الدكان ويباع معه خبز المريس وجبن الكرد.
أما في القسم الثاني من السوق فهناك الصيارفة مع أكياس نقودهم وخشخشة ريالات (مارياتريزا) او المجيديات العثمانية لتبديلها بالروبيات تمهيداً لدخول الناس للتبضع، ومن ثم دكان حسون (أبو الجبن) ومقابله دكان كباب (المولة خانة) ثم (مغازة حجي حسين خيوكة) الكبيرة ثم باعة النعالات الجلدية النجدية والعراقية ومن الشمال بائعي الأحذية الجاهزة ثم جامع القبلانية الذي اشتهر بائع الكبّة(على بابه) كما اشتهر هذا الجانب بخطيبه الملا مصطفى الواعظ ثم (سوق الأطرقجية) الصغير الذي تباع فيه الفُرش والحصران والبسُط ثم دكان شاشا بائع البوبلين الشهير في بغداد ثم خان الحريري وخان جغان ثم سوق الصاغة ثم الروافون وبائعو الساعات واشهرهم موشي الساعجي، ويستمر السوق حتى جامع الوزير وقهوته المدورة وهي مشهورة بعمل النركيلة ثم خان الباجه جي ثم دكاكين بيع البرنوطيوزي ويمنيات حلب وبغداد ثم نصل الى سوق المصبغة.