جليبــــــــ الماي عاش في الأهوار ومات في ضواحي لندن!

988

جبار عبد الله الجويبراوي/

في خمسينات القرن الماضي كان المشرّح نهراً كبيراً تظلل ضفتيه أشجار الغَرَب ذات الرائحة التي تُذَكُّرنا بطفولتنا الجميلة عندما تهب عليها ريح الشمال فتبعثر أوراقها وتطفو على سطح الماء، فيما تتشابك أغصانها فلا نستطيع التقرب منها خوفاً من (جـليب الماي ) أو كلب الماء ( القندس) أو كما يسمى علمياً كلب البحر العراقي ..

في هور الحويزة

ما زلت أتذكر لعبتنا الشعبية عندما نقف على الشاطئ ونصيح (ﭼِليب الماي ، تريد حليب يو ﭼـِاي ) فيردد الصدى نفس الصوت . . لم أر ﭼـليب الماي طيلة طفولتي . حتى إذا ما صرت في عقدي الثاني وعُينت معلماً في هور الحويزة عادت حكاية (ﭼـليب الماي) إلى الذاكرة من جديد وقادني هذه المرة إليها معلم في مدرسة (الدبن) في قرية أبي خصاف في هور الحويزة أيضاً، وقد أتاني بمجموعة من تلاميذ قرية أبي الصخير. هؤلاء قالوا إن أحد ساكني قريتهم ما زال يعيش في بيته ( ﭼِليب الماي ) وقد اعتنى بتربيته منذ كان صغيراً. ويقوم ﭼِليب الماي يومياً باصطياد عدد من الأسماك تأخذ إحداها صاحبة الدار والباقي تظل له والجميع يراه يومياً كما كانوا يقولون ! بقيت في شك من هذا الخبر ووعدني التلاميذ باصطحابي معهم إلى قريتهم تلك والتي يتطلب السفر إليها يوماً كاملاً. . .

في أول عطلة صيفية بعد التعيين عام 1967 اقتنيت كتاب ( قصبة في مهب الريح ) لمؤلفه السائح الانكليزي ( كافن ماكسويل ) وجدت فيه ضالتي، ولم أعد أسأل أحداً عن (ﭼِليب الماي) بعد اليوم، فقد أورد المؤلف أكثر من ( 23 ) صفحة من القطع المتوسط يتكلم فيها عن ذكرياته وعن جروة كلب الماء هذه التي اشتراها بـ (خمسة دنانير) مع حلمة مطاط وزجاجة حليب من أحد صيادي الأسماك في قرية أبي صخير أيضاً.

كانت الجروة بحجم القطيطة أو السنجاب ولم تزل بعد صغيرة لا تحتمل الوقوف على أقدامها وكان ذيلها المخروطي في طول قلم الرصاص وعندما تتمرغ على ظهرها يظهر بطنها المغطى بالفرو وأقدامها المبطنة بغشاء لحمي . .

الكحلاء

إن معظم صغار الحيوانات تتسم بالجمال، ولكن كان لهذه الجروة من السحر في كل نقطة من جسمها ما لم يجده في صغار أي حيوان آخر، ولا يمكنه الكتابة عنها الآن دون أن يحس في داخله بغصة من أجلها ـ على حد تعبير كافن ماكسويل ـ.

أدخلها تحت قميصه وسرعان ما استعذبت ذلك الدفء والظلام الذي فارقته منذ أنتزعت من أمها، وبقي يحملها على هذه الصورة طيلة أيام حياتها القصيرة، وكان رأسها يبرز من فتحة الصديري عندما تكون مستيقظة وكأنها صغير حيوان ( الكنغر) يبرز من كيس أمه، وكانت تنام ككلاب الماء على ظهرها، أما إذا استيقظت فإنها تزقزق في البداية كالطيور، أما في أحلامها فإنها تطلق صرخات ذات ثلاث نغمات، وقد أسماها (كحلاء) باسم أحد الأنهر التي تغذي هور الحويزة، ولأن نغمة صوتها تشابه مقاطع هذه الكلمة.

رَضيت به أباً وأماً من أول لحظة نامت فيها بين جسده والقميص ولم يلحظ أنها أبدت خوفها مرة من أي شيء أو أي إنسان، لكنه كان ذلك الأب الذي خذلها، ذلك أنه لا يملك المعرفة ولا تلك الغريزة التي تملكها أمها، ولذلك ماتت بسبب جهله وقلة تجربته، ومع أن مأساتها طفيفة إلا أنها كاملة.

كثيراً ما كان يفتقد كحلاء عندما يجلس ليكتب عنها عند عودته لأرض انكلترا، ويأخذه الحنين فيطرح المسودات والقلم جانباً ويخرج إلى الباب ويصفر فينطلق من البحر، على مسافة خمسين ياردة (مجبل) كلب الماء الذي خلّفَ كحلاء ويأتيه راكضاً فوق رمال البحر، ويقفز من حوله ثم يدخل البيت ويذهب لينام على ظهره إلى جانب الموقد، كان مجبل كلباً من كلاب البحر ذا أهمية كبيرة، فإن جنسه كان غريباً وجديداً على العلم، ولم يكن ليكتشفه في الأهوار لو لم تمت كحلاء التي كم تنمى لها ألا تموت.

قصير ورأسه مفلطح

وبينما كان مجبل يتجول في ريف لندن دهسه سائق اسكتلندي بطريق الخطأ، فمات في ديار الغربة بعيداً عن أهواره وإخوته (القنادس) ودفن في ضواحي لندن.

ﭼـليب الماي حيوان ثدييّ مائيّ لاحم ، جسمه مستطِيل ، رأسه مفلطح ، عنُقه غليظة ، قوائمه قصيرة ، جلده فرويّ فاخر الصنف ، وذيله غليظ ونهايته مدببة وطوله أكثر من متر، أسنانه حادة وأصابعه ملتصقة بغشاء رقيق يساعده على التجديف والسرعة الفائقة يكسو جلده الفرو الناعم والثمين ويستعمل لصنع الملابس الفاخرة يجيد الصيد والسباحة والغطس لمسافات طويلة يطلق صفيراً عند خروجه من الماء .

الأهوار التي يتواجد فيها هي : (زجري، السناف، الـﭼكة، الصحين، العكر، الكباب، أم الزوري، أم البني، أم نعاج، الصيكل) وغيرها. يتخذ من الممرات المائية ذات التيار القوي (الكواهين) ملعباً للسباحة والصيد ويحبذ الأسماك الصغيرة، أما الأسماك الكبيرة فيصطف معها ويقطع زعانفها الأمامية والخلفية حتى يشل حركتها فيقتلها ثم يسحبها بأسنانه إلى الجزرة التي تتواجد فيها أنثاه وصغارها الجياع والذين هم بانتظاره. يتكاثر في شهر شباط من كل سنة وقد تلد الأنثى أكثر من جرو وهناك تفاهم وتحابب ومودة بين الذكر وأنثاه حيث لا يفارقها مطلقاً إلا في الأيام الأولى للولادة فتبقى الأنثى مع صغارها لتعتني بهم وتعلمهم السباحة والغطس والصيد وتحرسهم من الأخطار التي تهددهم ، ويذهب الذكر ليوفر لهم قوتهم اليومي من الأسماك حتى تكبر الجِراء وتصبح كلاباً وتعتمد على نفسها في العيش والتزاوج.