مدن أخذت أسماءها من جريان الأنهار

1٬619

كريم راهي/

ربّما كان السبب الذي دفع امبراطور الأنين الراحل، رياض أحمد، لاستخدام توصيف (ياناسين الوفه)، في واحد من أشهر مواويل الحزن التي غناها، هو صعوبة فهم العبارة الأصلية، ليس بالنسبة لجمهوره فحسب، بل لكلّ من لم تطأ قدماه بِطاح (الحسچة)، ولم تتلون أذناه بتلك الموسيقى التي أخذت من الفرات حصتها من الانسياب، بعد أن صار تيار الماء المتدفّق تواً، يشقّ مجراه الجديد.
ففي نهاية القرن الثامن عشر، حين قرّر (آصف الدولة)، الوزير محمد شاه الهندي، حفر قناة من نهر الفرات إلى حيث مجرى نهر (بالاكوباس) الجاف، لإيصال مياه الشرب إلى (مشهد الإمام علي)، كما كانت النجف تُدعى قبلئذٍ، لم يدُر بخلده أنه سيبثّ روح الخضرة في الكثير من مراتع الضفاف، مقابل موت جزء كبير منها جراء تحوّل مجرى الفرات الأصليّ إلى النهر الجديد. وهكذا ماتت تجمّعات سكّانية مثل (الرماحية) و(لملوم) وكادت تنتهي مدن كبرى مثل (الحلة) و(الديوانية)، بينما نشأت وعمرت قصبات (طويريج) و(الكوفة) و(الشامية).. ونشأت مدن ضفاف أخرى ستأخذ من سلوك جريانه أسماءها.
فبعد تجاوزه المنطقة الصخرية عند (أبي صخير)، وبسبب انحدار السهل فيها، كان نهر (الهندية) الذي صار يُدعى كذا، يُصدر صوتاً أشبه بالجعير، وهكذا اكتسبت (الحيرة) اسمها الجديد (الجعّارة)، وعندما تجاوزها سيلُ الماء الهادر جنوباً وأصبح يُصدر أصواتاً تُشبه ما يصدره صوت (شخيب) الحليب من ضرع البقرة، كانت (المشخاب).
وفي معنى (الدهلة) ما يُغني عن الحديث عن سبب تسمية تلك القرية الصغيرة بهذا الإسم. لكن للدهلة عندي ما يدعو للكف عن سرد بقية الحديث عمّا منح النهر من أسماء، فعدا عن كونها تُعدّ وصفاً لكل الأراضي الرسوبية، فقد اكتسبت المنطقة المحيطة بـ (الرميثة) كلّها هذا الإسم بعد أن وصلها النهر الجديد وصار يمنحها بركاته الغرينية.
يُروي عن (هتلوش الخزعلي)، شاعر القرن التاسع عشر أنّه التقى هناك، بعد انتقاله إثر جفاف نهر (الرملة)، شاعراً مشاكساً يدعى (ابريد ابن شلاّل الزيادي)، وراح الزيادي هذا، الذي لم يصله الكثير عن بلاغة الخزعلي، يحاول النيل من شاعريته، معرّضاً به في رباعية لا يُخفى معناها على اللبيب:
آنه وياك بالمنطوق مازون
فرد چسوة وفرد محچة وفرد لون
أُمّك طابّه (الدهلة) كبل كون؟
أريدنّك تصحلي منهه الأخبار
ولمّا كان (هتلوش) ذا ماضٍ شعريّ خلاّق، يشهد له فيه ابتكاره لوزن (التجليبة)، فلم يكن من الصعب عليه أن يرد صاع الإهانة على بادئها بصاعين، سيحمّلانه عاراً شعريا أبد الدهر قال:
صحّيت الخبر منهه وهل جيت
تكول امخدّره ومطلع من البيت
أبوي يكول (للدهلة) تعنّيت
وبيّن لي بعض نيّات واسرار
ولم يتجرأ، حسب علمي، أحد من حفّاري الانثروبولوجي أو اللنكوستك، بعد، لفكّ طلاسم اللهجة المحليّة التي كتبت بها أشعار القرن التاسع عشر العاميّة، ولا الجذور التي تحدّرت منها مفردات مازالت حية في أشعار القرن الواحد والعشرين العامية، وحتّى في حديث العامة في المناطق التي مازالت ذاكرة شيوخها متوهجة لترمي أثناء الحديث بمفردات مثل: (وَعاد!) بمعنى ميخالف أو لا بأس، أو (قاب عُوّين) بمعنى صحن من اللوبياء، أو (يا غادي الجدة) بمعنى العتب والتأنيب الودود التي لم أجد لها مرادفاً في اللهجة المحكية للآن، وستدفعني ذات يوم، وأنا في الصقع الشمالي الشاسع من المعمورة، لأن أتوقّف عن إنشادي، لأسأل نديماً لي عن جذرها اللغوي، أو معناها الحرفي.
لي مع (عريان السيد خلف)، شاعر العامية المعروف، مناقب وأسئلة، فعدا عن سهرات شعرية غنائية خاصة جمعتنا في بيتي ببغداد، وزيارات عمل متبادلة أيام كنّا نقاوم الحصار ببيع (اللدائن)، فلم ينج الرجل من أسئلتي حول غرائب المفردات في أشعاره حتّى في (ستوكهولم)، حيث سيجمعنا ساحل بحيرة (سترا) ذات ظهيرة ربيعية رائقة، وثلّة من الأولين، لننشد الأشعار ونغنّي، فيما الشمول تعبثُ بالقرائح:
أنه انياب الدهر بحشاي شتصيب
ترادفلي بدِليلي صواب لصواب
أونّ ومن ونيني اليرضع يشيب
وعلى اليبعد عِزيزه شلون ينعاب
چذب من كال جرح جفاكم ايطيب
كضن سنتين والبسمار ما طاب
لباريكم براة الشاة للذيب
ولا چنكم (يناسين الوفة) احباب
دَحنّوا لي واذكروا بعشرتي الطيب
ولو حنة كلوب اجناب لجناب
العِتب شيفيد لو عن ناظري تغيب
وكبل ما فاد واحنة الباب بالباب
قلت لأبي خلدون: لمَ تُرى أبدل رياض أحمد، حين غنّى قصيدتك هذه، عبارة (غادين الجده) هنا بـ (ناسين الوفه)؟
ولمّا كان صاحبي في أشدّ نوبات هنائه، فإنّه لم يكلّف نفسه أكثر من أن يشير بسبابته صوب جنوب الشرق، حيث يدير ظهره، في إشارة فهمت منها أنه يعني أنهم فراتيون فحسب، ثمّ قال: هذي امجازاتي؟.. ثمّ طفق يُغنّي:
اهنا يمن چنه وچنت جينه ووكفنه ببابك
ولف الجهل ما ينّسي شمالك نسيت أحبابك
في إشارة إلى ورودها في معارضات بيتي القصيدة هذين اللذين اختلفت بشأنهما الروايات، وهي عن إمرأة عادت بعد دهر طويل لتلقي نظرة على حبيب سابق، ولمّا لم تجده، قالت البيتين إيّاهما اللذين طار صيتهما فيما بعد، وحفّز الكثيرين لمعارضتهما، مضمّناً كلمات العتب الرقيقة التي ستكون (غادي الجدة) أكثرها بلاغة.