شارع النصر.. ثلاث تسميات حسب تقلّب الأزمنة

2٬162

عبد الجبار العتابي _ عدسة: صباح الامارة/

كثيرون لم يسمعوا باسمه، والعديد لا يعرفون اين يكون بالرغم من مرورهم اليومي فيه! لكنه شارع مهم بتاريخ مضيء وحضور لافت في المشهد البغدادي، امتداداته طويلة تعبر الجسر وتدور في الأرجاء، ما جعله ذاكرة حية تنبض بالكثير من الحوادث والأحداث، فيما واقعه سيئ ايضا للاهمال الذي يضربه.

هو الشارع الممتد من جسر الشهداء حتى تقاطع شارع حيفا مع وزارة الثقافة، هناك من يصفه بأنه يمتد من ساحة الشهداء وينتهي قرب سينما بغداد القديمة ومنطقة علاوي الحلة، هذا قبل انشاء شارع حيفا الذي قطع الشارع فتركه على واقعه الحالي بخطه المستقيم القصير المختلف عن سواه، لكنما المساحة الخلفية المقتطعة لم تعد تشبهه، فهو ما زال يحمل سيماء بغداد القديمة وملامح محلاتها ورائحة الدرابين العابقة بالروح البغدادية الطيبة وذلك الطراز المعماري الجميل بشرفاته وشناشيله وزخارفه.

سوق عباسية

للمكان تاريخ يمتد الى النشأة الاولى لبغداد التي بناها الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور، وكان هذا المكان (الكرخ) خارج بغداد (جنوبها) فجعلها سوقا ليسكنها العامة، ويضم أصحاب الصناعات والتجار والباعة. بنيت الكرخ سنة 157هـ/ 774م لتظل عاصمة الخلافة محتفظة بجمالها وسحرها وتألقها، وكانت الكرخ سوقاً نموذجية، فلكل تجارة سوق خاصة بها، ولم يبقَ إلا أن يبنى المنصور مسجدا جامعا يجتمعون فيه حتى لايدخلوا بغداد، فبنى للعامة جامعا، وهو غير جامع المنصور الذي كان يلي القصر، ومرت عليها الأزمنة والمكان يستنشق عطر دجلة لكن الشارع ارتبط ارتباطا عضويا بالجسر، جسر الشهداء الذي تبدلت تسميته اكثر من مرة، فهو يربط بين منطقتي الكرخ والشواكة في جانب الكرخ بالسراي والمدرسة المستنصرية في جانب الرصافة ..وتم افتتاحه زمن الوالي نامق باشا سنة 1902، اطلق عليه البريطانيون اسم الجسر الشمالي او جسر كوتا فيما كان البغداديون يسمونه جسر (الكطعة) وبعضهم ظل يطلق عليه (الجسر العتيك) وظل هذا الجسر قائما حتى نهاية الثلاثينات، حيث افتتح الجسر الجديد وتسلمته الحكومة العراقية باحتفال رسمي في 15 تموز 1939 واطلقت عليه اسم جسر المأمون قبل ان يطلق عليه عام 1948 اسم جسر الشهداء بعد ان سقط على الجسر عدد من المتظاهرين المحتجين على معاهدة بورتسموت. كل هذه التغيرات جعلت من المكان الذي يقع فيه الشارع ضرورة وقد أصبح الجسر عصب حياة البغداديين ولا طريق للمرور الا من هذا المكان، اذ ان المنطق، وليس التاريخ، يقول ان الشارع استحدث منذ ان كان الجسر.

رأس الجسر

يقع الشارع ضمن محلة (رأس الجسر) وهي ضمن المحلات الرسمية المسجلة لبغداد عام 1921، وحسب الدكتور عماد عبد السلام رؤوف ان هذه المحلة ((عرفت باسمها الاخير حينما اعيد نصب جسر بغداد الوحيد في مطلع العصر العثماني في موقعه الاخير بين شريعة المولى خانة (قرب قاعدة جسر الشهداء الحالية) وما يقابلها من الجانب الغربي ومنه اكتسبت اسمها)) ، ويضيف: (تحاددها من الجهات الاخرى محلات الفلاحات والشيخ بشار والشيخ صندل والسيف والدوريين، كما تكررت الاشارات اليها في الوقفيات الشرعية سنة 1273 هـ / 1856 م) ، ويوضح: (من معالمها البارزة سوق رأس الجسر وسوق الحدادين، ويرقى الاخير الى ما قبل سنة 1106 هـ / 1694 م، وحمام الجسر وجامع عبد الحنان، وهو جامع قديم اشير اليه في وقفية سليمان باشا الكبير سنة 1197 هـ / 1765 م، وما زال قائما، ومقاهٍ قديمة تردد ذكرها في الوثائق الوقفية، ومن اشهر هذه المقاهي مقهى البيروتي التي انشأها الحاج محمد البيروتي سنة 1315 هـ/ 1897 م ).

شارع الوصي

كان للشارع اسم ملكي قديم هو شارع (الأمير عبد الإله) تيمنا بالوصي على عرش العراق عبد الإله، خال الملك فيصل الثاني، بعد اقامة الجسر عام 1939، وقامت امانة العاصمة بفتح هذا الشارع الذي يمتد من مطلع الجسر الى خارج المدينة، حين كانت نهايات المدينة قريبة، وعدّ حينها ثاني اهم الشوارع في بغداد كونه يمتلك مساحة عريضة مثالية وارصفة جيدة فصار الطريق المميز المؤدي الى الرصافة عبورا على الجسر ، فكانت بناياته عامرة ودكاكينه حافلة لا سيما انه كان عالما متكاملا من الخدمات ابتداء من العيادات الطبية الى الفنادق والمقاهي والاسواق والمطاعم والافران وكل ما يحتاجه الناس.

هذا الشارع طالما كان ممرا وتجمعا للمتظاهرين الكرخيين، وقد بلغت التظاهرات أوجها في الأربعينات وأواخرها من القرن الماضي، خاصة في اليوم الأول من كانون الثاني عام 1948م، وقد تجمّع المئات من الشباب عند رأس الجسر وبدأت الهتافات والشعارات المنددة بمعاهدة (بورتسموث) التي أبرمتها الحكومة الملكية مع بريطانيا، وتحركت تظاهرة حاشدة متوجهة صوب الجسر وعندما بلغت الجموع مدخل الجسر تعرضت لهم الشرطة واندلع اشتباك، استخدمت فيه الشرطة السلاح وأطلقوا الرصاص ضد المتظاهرين وجرح الكثير، وقتل ابن صاحب محل لبيع الحبال في مدخل الشواكة عند كراج بناية التقاعد العامة ‘حالياً’ وعلى اثر سقوط الضحية، أخذ الحماس يلتهب في نفوس المتظاهرين وهم يرون دماءه ودماء الجرحى الآخرين، فاندفعوا يرمون الشرطة بالحجارة، ليفسحوا المجال من أجل عبور الجسر، واستطاعت تظاهرة الكرخيين عبور الجسر الذي سمي على أثر الحادثة بـ(جسر الشهداء) بعدما سقط عدد من الشهداء على الجسر .

60 عموداً في الرواق

مررت به جيئة وذهابا عدة مرات ولعدد من الايام، كنت أعاين كل شيء فيه واتأمل تفاصيله التي تبهرني فأعانقها بنظراتي واستمتع في ذلك وتحتدم مشاعري ما بين حزن لأنه مهمل والنفايات تغطي الكثير من مساحاته، وبين سرور لأنه ما زال حيويا وينبض بالتفاعل، حسبت الأعمدة الحاملة لسقف رواقه الجميل فوجدتها 60 عمودا، 30 عمودا في كل جانب، فيما كانت بعض المساحات منه من دون هذه الاعمدة ويبدو ان البناء الجديد زهد فيها، وحسبت طوله الذي قدرته بمئتي متر، الشارع يمتد من جامع الحنّان المقابل لساحة الشهداء، تجاوره من يمينه محلة (الصعدة) التي ما تزال تمتلك ملامحها البغدادية العتيقة ودرابينها وبيوتاتها وله اليها عدة درابين، ومن يساره علاوي الحلة الاصيلة وان صارت تسمى (الشواكة) التي تتصل به بطريق فرعي صغير فيما اغلقت الدربونة الصغيرة التي في طرف من جنوبه لاسباب تتعلق بدائرة الرقابة المالية، فيما رأسه من هذا الجانب الشمالي يقترب من (باب السيف) والمكان صار بمثابة سوق للسمك على الاغلب، ويحده من جنوبه شارع حيفا ، كما يمكن القول ان الشارع اخذ (راحته) وما عاد يعيش فوضى السير والازدحامات بسبب ان السير فيه باتجاه واحد وهو النازل من جسر الشهداء او المنعطف من شارع موسى الكاظم .

نكهة بغدادية

وفيه توقفت عند العديد من الاشخاص الذين لديهم محال تجارية فيه، فضلا عن عابري طريق، كنت احاول ان اعتصر ذاكراتهم التي اختزنت اسماء عديدة منه وعاشت سنوات فيه، فيما ذاكرة المكان مترعة بالكثير، احاول ان ارى الشارع كما كان قبل سنوات وهو بكامل عافيته وجغرافيته وعلاماته الدالة والفارقة وزهوه ببناياته ذات التصاميم المميزة ورواقه بالاعمدة كما شارع الرشيد، ما اجملها وهي تضفي على المكان روحا بغدادية اصيلة، ففيه العديد من الفنادق التي مازال بعضها يعمل لكنها تحولت الى فنادق شعبية ولا تمتلك ذلك التميز الذي كانت عليه في السابق وهي الان تستقبل افرادا من المحافظات ومن تتعطل معاملته عند دائرة التقاعد لكنها لا تمتلك زهو الماضي، فيما اختفت اغلب المقاهي وظلت المطاعم البسيطة قائمة ويجتمع فيها لاسيما في الصباحات روادها، ولو نظرت بتأمل لوجدت فيه الكثير من الاشياء التي تحفل بالنكهات البغدادية القديمة، فمن الممكن ان ترى محلاً للساعات بزهوه القديم ومحلاً للحلاقة بادارة رجل كبير في السن باثاثه المدهش واخر للمعجنات وغيرهم للأشياء التراثية وتسترعي انتباهك الكثير من الاشياء على الشارع ، واذا ما مرقت منه صباح يوم الجمعة وهو غاطس في الهدوء ستشعر بالدهشة حتى وانت تتأمل اولئك الذين يتناولون (القيمر والكاهي) على رصيفه .

حادث مريع

الناس الذين سألتهم عن ابرز احداث الشارع قالوا انه الحدث الذي شاهدوا فيه جثة الوصي عبد الاله عارية مشنوقة ومعلقة من الشرفة التي تعلو مطعم (الشمس) انذاك، ويتحدثون عن شكل البشاعة التي تعرضت له الجثة، يقولون ان المحتجين يوم ثورة 14 تموز 1958 حين جاءوا بجثة الوصي الى الشارع الذي يحمل اسمه سحلوها ومن ثم علقوها على تلك الشرفة بالصراخ غير المفهوم. مؤكدين ان تلك اللحظات شهدت تحطيم اللوحة الخشبية المكتوب عليها اسم الشارع المعلقة على عمود حديدي قرب جامع (الحنّان) وعلى الفور اتوا بلوحة تحمل اسم (شارع النصر) وعلقوها في المكان ذاته للدلالة على انهم انتصروا على (الملكية) وتعبيرا عن فرحتهم بقيام (الجمهورية).

اسماء في الذاكرة

هناك الناس يتذكرون اسماء العديد من المحال التجارية التي كان لها صيت طيب، يتذكرون الفنادق التي كان لها تميز مثل فندق الروضة وفندق دار السلام ويتذكرون المصور يحيى عارف الذي كان المار منه لا بد ان يتوقف ازاءه للنظر الى صوره بالابيض والاسود خاصة التي يجعل منها لوحات فنية، كما يتحدثون عن محل حلويات الحاج جواد الشكرجي التي ابتدأت من هذا المكان وكذلك عن معرض احذية دجلة او الشاكري ويشيرون الى مديرية التقاعد العامة التي كان مكانها في الشارع قبل ان تنتقل الى ضفة النهر كما يشيرون الى مكان دائرة البريد التي كان لها حضور داخل المجتمع لما تؤدي من دور وكذلك (اورزدي باك) بمكانه الصغير وفائدته الكبيرة. ويؤكدون ان الشارع كان يزخر بعيادات الاطباء مثلما كانت الحمّامات احدى علاماته الفارقة.