مدرسة الراهبات تاريخٌ بغداديّ في التعليم
عبد الجبار العتابي /
شكل بناء المدرسة يغلب عليه الطابع الكُنسي ذو النكهة البغدادية خاصة وأن الشركة المنفذة والمخططة هي شركة فرنسية، ويتكون البناء من أقواس صغيرة تستند الى أعمدة اسطوانية صغيرة القطر يبرز في وسطها الصليب.
مشيت على طرفها المحاذي لجسر الجمهورية، كنت امتلئ إعجاباً بها، بمعمارها وطابوقها ونظافتها وإطلالتها واخضرار أماكنها، كنت أتأملها وأقرأ على حيطانها علامات الزهو والتباهي وسيماء أزمنة تلوح كالوشم، ثم أتهجى اسمها القديم (راهبات التقدمة) وأتابع الصليب الشاخص على واجهتها للدلالة عليها. عاينت المكان فحضرت في ذاكرتي صورة لطالباتها وهن يمارسن التمارين الرياضية في ساحة المدرسة، حيث ارتدين (تنانير) بيضاً قصيرة وقمصاناً بنصف كُم، وأراني بعد قليل أشاهد أفواج الطالبات بزيهن الموحد الجميل، واسمع وقع خطواتهن التي تمضي نحو مستقبل العراق، بل انني حين انتبهت كأنني رأيت أبا نواس يقطع الطريق الى مسكنه من هناك وهو يتغنى بالمكان، بل انني تصرفت كما تصرفت الشاعرة لميعة عباس عمارة ذات يوم من سنة 1964 حينما أرادت أن تعبر جسر الجمهورية الى بيتها في كرادة مريم وقد التفتت: (هناك مدرسة التقدمة للراهبات على يساري وأنا امشي… لأول مرة يدفعني الفضول لأن أقف على باب هذا البناء الذي يحمل أسم القديسة فاطمة، وكنت ارى طالباتها بصداريهن السوداء وياقاتهن البيضاء وهن في سيارات المدرسة) ، ومن ثم استذكر عبارتها ((وجوه الطالبات التي تنطق عن النعمة وأتمنى لو درست ابنتي الوحيدة (طيب) في هذه المدرسة التي تعلِّم الفرنسية والإنكليزية والأخلاق والأصول والتربية الراقية…)) ،فأجدني أتخيل أعداد المتخرجات من هذه المدرسة وقد تعلمن الفرنسية والإنكليزية والأخلاق والأصول والتربية الراقية وقامت بهن الأسر ونهض المجتمع، وأصبحن طبيبات ومهندسات، وسيدات مجتمع مشهورات، ومنهن على سبيل المثال المهندسة العالمية الراحلة زها حديد والصحافية الروائية إنعام كجه جي .
علامة فارقة
هذا البناء الذي يحمل اسم (مدرسة الراهبات) يمثل حياة مفعمة بالذكريات، خاصة أن عمره يقترب من المئة سنة، حيث أسس في عهد الملك فيصل الأول عام 1921، وقد صار علامة فارقة ومركزاً مهماً في بغداد حيث منطقة الباب الشرقي، فمن هنا شارع السعدون ومن هناك شارع الرشيد وامتداده شارع ابي نواس ونهر دجلة، كأن البناء يذود عن نفسه بنفسه ويؤكد حضوره في الحياة البغدادية كرمز بغدادي مهم، حيث يعد الكثيرون المدرسة (رمزاً من رموز التعليم المتحضر الذي كان، ودلالاته الرمزية كمكان للعلمانية التربوية التي سادت مرة في العراق حيث تدرس المسيحية والمسلمة واليهودية والمندائية في ثانوية واحدة بمنتهى الوئام والمحبة).
من دير الى مدرسة
للمكان ذاكرة متوقدة تؤكد انه يعود الى أزمنة بعيدة، ويمكن الاستفادة من المعلومات التي ذكرها الكاتب محمود آل جمعة المياحي، حيث يمكن قراءة ما قاله ياقوت الحموي في (معجم البلدان) عن هذا المكان الذي كان موقعاً لدير عظيم أقيم في زمن الدولة العباسية، كان يسمى (دير الزَنْدوَرْد) وانه كان شأنه شأن الأديرة في تلك الأيام، كان (مكان نزهة) لأهالي بغداد على اختلاف دياناتهم وأطيافهم لما فيه من البساتين وعرائش الكروم، حتى ان ابا نواس قال فيه : (واسقِني من كرومِ الزنْدِوَردِ ضُحَىً / ماءَ العناقيد في ظل العناقيد)، لكن هذا الدير اندثر واختفى من على سطح الوجود، كما يبدو، بسبب الفيضانات المتواترة لنهر دجلة في أزمنة لم يكن للسدود حضور فيها.
ومع تقلبات الأزمنة والأحداث الكثيرة، اصبح المكان (الأرض) ملكاً لشخص اسمه (مصطفى أغا عطفة)، حسب الوقفية المؤرخة في 1821 م/1237هـ، ثم اشتراه الحاج عبد الرحّمن عثمان أغا علي عبد الرحمن الأورفه لي) المولود في بغداد (1824- 1944) وزرعه أشجاراً متنوعة وأنشأ عليه بستاناً عامراً، وعرفت الأرض هذه بـ (الأورفلية). لكن حدوده في هذا المكان تتمثل بشارع سينما السندباد التي هي الحدود الجنوبية للبستان، فيما الحدود الغربية هي عند السدة الترابية المقامة على ضفة النهر والتي اصبحت فيما بعد شارع (ابو نواس)، ومكان المدرسة يعد جزءاً من البستان الكبير. ويبدو ان مستشرقاً او يقال (دارساً) فرنسياً انتبه الى حقيقة ما كان عليه المكان في العصر العباسي، فأوعز الى جمعية تعود لطائفة اللاتين الكاثوليك تدعى (جمعية أخوات المحبة الفرنسيات) بطلب لإنشاء دير في المكان نفسه، وعندما عُرض مشروع بناء (الدير) من قبل هذه الجمعية لم يتردد الحاج عبد الرحمن الأورفه لي في إهداء (قطعة) من ارض البستان الى الجمعية، وهذا ما حصل فعلاً. وباشرت شركة معمارية فرنسية البناء مطلع العشرينات، وكان البناء على غرار دير قديم كان الفرنسيون قد بنوه في القرن التاسع عشر في منطقة (عگد النصارى) وأسموه (دير راهبات التقدمة المركزي) او الكوليج دي سانترينو. وتذكر صحف تلك الأيام أن الماسيرة جوزيف كانت هي المشرفة على بناء الدير، وكان يتكون في أول أمره من سرداب ومبنيين، أحدهما يطل على موقع جسر الجمهورية الحالي وكان مخصصاً كدير، والآخر كان يطل على جهة شارع السعدون الحالي كمدرسة للراهبات، وأما السرداب فكان مكاناً لمعيشتهن.
بعد ذلك أضافوا للمبنى طابقين آخرين وأبنية جانبية ملحقة ليتم افتتاح (مدرسة راهبات التقدمة) التي اشتملت على روضة وابتدائية وثانوية، وكانت السيدة (إميلي رزق الله) اول مديرة للروضة ثم لم تلبث ان أصبحت مديرة للمدرسة بروضتها وابتدائيتها وثانويتها، وكان الكادر التعليمي من الراهبات الأجنبيات والمحليات ممن حزن تعليماً متقدماً .
سانت جورج!
مما يذكر أن الانكليز بعد عشر سنوات من دخولهم العراق اتخذوا القاعة العليا المطلة على شارع الجسر (كنيسة) لهم اسموها كنيسة (سانت جورج) تحولت بعد ذلك الى (متحف) فيه الكثير من التماثيل المصنوعة من الشمع التي يشرف عليها الفرنسيون لغاية اليوم !.
ثانوية العقيدة
استمرت المدارس في هذا المكان بتعليم كل طوائف المجتمع العراقي ولكل المراحل الدراسية وكانت (ادارة المدارس) تنقل الطالبات من جميع مناطق بغداد بواسطة باصات صفراء اللون مكتوبٌ عليها (مدارس راهبات التقدِمة)، ويقال ان وزير التربية في العام ١٩٦٤ اصدر أمراً بتغيير اسمها الى (ثانوية العقيدة للبنات)!، حتى جاء قرار تأميم المدارس عام 1973 لتكون المدارس ضمن ممتلكات وزارة التربية، وعندها فُصلت المدارس فاصبحت الروضة :(الشقائق) والابتدائية :(دجلة) والثانوية : (العقيدة للبنات) ، وجرت عليها في التسعينات بعض الترميمات، اما آخر بناء جرت اضافته فكان عام 2005 وان المدرسة الرابعة التي اضيفت هي (كلية بغداد للمتميزات) سنة 2010 ليكون مجموع المدارس اربع مدارس.
شكل البناء .. نكهة بغدادية
يؤكد العارفون بالعمارة أن شكل بناء المدرسة يغلب عليه الطابع الكُنسي ذو النكهة البغدادية، رغم ان الشركة المنفذة والمخططة هي شركة فرنسية، ويتكون البناء من اقواس صغيرة تستند الى أعمدة اسطوانية صغيرة القطر يبرز في وسطها (الصليب) بأبسط اشكاله والبناء معمول بالآجر المعروف (بالطابوق الجمهوري) والنورة (الجص) وهذا المحتوى هو لواجهة الطارمة الأمامية للطابقين وخلفها تأتي الصفوف الدراسية، والبناء عبارة عن مربع منقوص الضلع تتوسطه ساحة (حديقة) تستخدم لمختلف النشاطات الطلابية، ويتقدم البناء من جهة شارع جسر الجمهورية بروز للصليب من نفس مادة البناء على ارتفاع الطابقين، ويوضحون ان من الملاحظ ان سُمك الجدران في عموم البنايات يقترب من نصف المتر وفيه عدد من (الروازين) التي تستخدم للنشرات الجدارية او للخزن، وارتفاع السقف في عموم البنايات يربو على اربعة امتار وهو معقود بالطابوق ومسلح بحديد الشيلمان (عكَادة) وخالٍ من اية نقوش، أما الأرضيات فمبلطة بالكاشي الموزاييك وبقية الباحات والطارمات والساحات مبلطة بالطابوق الطينـــي المــعروف بـ (الفرشي) وان شكل البناء بهذا الأسلوب يوفر عزلاً حرارياً عالياً صيفاً وشتاءً.
لا صحة لبيعها
نقترب مما أشيع مؤخراً عن المدرسة وانها ستتحول الى (مول) تجاري، فجاء الخبر الأكيد من راهبات التقدمة اللواتي تعود ملكية المدرسة اليهن حيث أوضحن : أن المدرسة مؤجرة من قبل وزارة التربية، ونظراً لعدم دفع الإيجار لمدة اكثر من 5 سنوات، رفعت راهبات التقدمة دعوى قضائية على وزارة التربية لإعادة المدرسة الى ادارة مباشرة من قبل الراهبات، ولعدم قدرة الوزارة على إعادة المباني التابعة للمدرسة، قررت الراهبات الإشراف المباشر على إعادة مكانة المدرسة العلمية في المجتمع العراقي..، أمّا فيما يخصّ الأنباء التي وردت عن تحويلها الى مول تجاري فهي عارية عن الصحة، لأن المدرسة تُعتبر صرحاً تاريخياً وحضارياً تابعاً لراهبات التقدمة ويخدم شريحة مثقفة من المجتمع العراقي.