القاص نعيم شريف: بصمة الطين العراقي على كتاباتي

1٬878

عبد العزيز الناصري /

لا أدري كيف ابدأ، ومن أين أبدأ، فمحطات الوجع في حياة الكاتب القاص نعيم شريف كثيرة وذات حلقات يرتبط بعضها ببعض، تبدأ من معاناة الصراع لأجل رغيف الخبز، مروراً بزنزانات البعث المرعبة وانتهاءً بالغربة وتداعياتها، ولعل الوجع الأهم ذلك الذي يسكنه منذ نعومة أظفاره، ألا وهو وجع عالم السرد الذي يؤرشف كل تلك المحطات المترابطة..

نعيم شريف ضيف مجلة “الشبكة” لنحاوره عن الذات والسرد والوطن:

* لدى كل مبدع، ومنذ سن مبكرة من حياته، هاجس ما يحاول التعبير عنه بوسيلة وأخرى، ترى كيف أحس القاص نعيم شريف بهذا الهاجس وكيف اهتدى الى أداة تعبيره –القصة-؟

– لا أدري، لعلي وعيت هذا الهاجس الذي تقصده منذ سن مبكرة، منذ تفتحت عيناي على هذا اللغز الكبير الذي يحتوينا والذي يسمونه العالم، كنت أعيش في هذا العالم كمن يتصيد أخطاهء، وإن تفاصيل هذا الواقع غير منظمة بشكل ما، كانت تلك سنوات السبعينات وفترة الحكم البعثي تُلقي بظلالها على طفولتنا، كنت أسمع الحكايا كأقراني، لكنني كنت أتشربها وأهجس أن طريقة التعبير بالحكي أكثر سحراً وذكاءً في إعادة ما فاجأنا به الواقع، كان ذلك زمن عثوري على القصة.. الهاجس الذي لازمني الى الآن.

* اذن هكذا توقدت لديك شرارة الإبداع، لكن عندما نضجت التجربة جيداً، لابد من هموم تظل تفرض حضوراً ملازماً لنتاجاتك، ترى هل هي التجربة وحدها، أم قناعاتك، أم هي مجمل حياتك؟

– هي كل ذلك مجتمعاً، أظنك تدرك أن التجربة هي في كثير من الحالات مادة الكاتب، أما أن بعض الهموم ترافقنا بعضاً من الوقت فلأنها لم تعثر على أشكالها الإبداعية النهائية بعد –ربما هنا أود الإشارة الى المخيلة، والتي أحسبها عماد الكتابة الإبداعية وهي تمتاح من بئر التجربة، أما الموهبة التي قصدتها أنت فهي عندي تلك النصيحة التي وجهها الكاتب الفرنسي (غوستاف فلوبير) الى الكاتب الشاب وقتها (غي دي موبسان) “إعمل.. إعمل فالموهبة صبر طويل”، أما ما ذكرته انت عن القناعات فتلك فيها الثابت وفيها المتحول بحسب جدول المفاجآت غير السارة التي يخبئها لنا هذا الواقع الذي يلفنا بعباءته وبحنان مشكوك بنزاهته.

*نظل في الإبداع، ونقول إن لدى كل مبدع بوتقة انصهار لأفكاره ورؤاه ومتبنياته، ربما نتفق على أنها الموهبة، لكن هل الحلم له دور في نتاجاتك الإبداعية ينصهر هو الآخر في تلك البوتقة؟

– هل تقصد الحلم بوصفه الملاذ، أم أحلامنا التي ذبحت على قارعة الطريق على مرأى ومسمع من الله والعالم، اذا كنت تقصد الحلم ذلك الملاذ الذي يحاول ان يصحح الواقع، فنعم، لابد للحلم من أن يكون المحرك والدافع، فعملية الكتابة، هذا الجهد الهائل والمعذّب والجميل، كفيلة بوضعه في بوتقتها لاشك، انه جزء أصيل في كل إبداع.

* ربما يكون الرمز اكثر اتساعاً من الحلم في تجربة الإبداع، فهل أخذ هو الآخر حيزاً في عملية إبداعك؟

– العالم معبأ بالرموز، وأحسب ان الكاتب يتعثر بها على الدوام، ولعلها هي من يستحثه على دوام الكتابة، ربما في بداياتي قصدت الرمز، لكن ذلك كان تحت تأثير هاجس السلطة الدكتاتورية الغاشمة، كان لابد من أن نحتمي بالرمز من الرقيب، كنّا وقتها نعيش هاجس الاعتقال والغياب الأبدي، فكان لابد لنا من أن نشير الى واقع منفر وقميء أنتجته لنا السلطة آنذاك. وبالتالي احتمينا بالرمز من الموت في الأقبية المظلمة، أما الآن فالكتابة عندي تنتج رموزها الخاصة دون أن يكون لي قصد في ذلك.

* ترى، ماذا عن عالمك السفلي، مجموعتك الأولى؟

– العالم السفلي هو مصيرنا الذي لا انفكاك منه، قدرنا الذي يسحق أرواحنا بلذة مرضية، العالم السفلي في الأساطير العراقية القديمة هو عالم الموت والغياب، نزول عشتار بحثاً عن حبيبها دموزي الذي اختفى في العالم السفلي، موت انكيدو ولوعة كلكامش، هو هذا الذات المتصل الذي يرافقنا كما لو كان دواءً موصوفاً لنا، مازلنا غارقين في هذا العالم السفلي بفضل سادة الظلام.

* حسناً، نعود لتجربة الإبداع لديك، وأسألك بمن تأثرت من كتّاب القصة والرواية، أي بمعنى هل ثمة بصمات للآخر ظلت تلازم نتاجك القصصي؟

– لعل آلية التأثر والتأثير غاية في التعقيد والغموض، فقد تقرأ كاتباً معيناً في مقتبل العمر وتشعر بسبب غامض أنه الكاتب الذي يتكلم عنك، ولعلك تقع في حب أسلوبه الكتابي وربما تريد أن تترسم خطاه، لكنك تكتشف حين تتفتح مغاليق وعيك مدى سذاجة ذلك الهاجس، يقول الكاتب الألماني “غوته”

“ركن رجلاً ولا تتبع خطواتي”. في الغرب، أقصد الكتابة هناك، ليست بمنأى عن أن يتأثروا ببعضهم، لكنه ضرب من التأثير المغاير، أي بمعنى أن يتمثل أسلوب الآخر والإفادة منه، فالرجل او الكاتب، إن أردت، هو الأسلوب كما يذكر “توماس اليوت” الشاعر الأميركي وهذا ايضاً ما قصده “غوته”.
انا أعجبت بكتّاب كثيرين، عرب وأجانب، لكنني أزعم ان كتاباتي لها شكل الرمال على شاطئ نهر الديوانية، تلك المدينة التي رعت طفولتي وصباي وشبابي، ومحتشدة بشوارعها وصورها، وبالتالي هي الكاتب الأول الذي شربت على يديه ماء الحكايا، ومن ثم فإن لكتاباتي بصمة الطين العراقي.. وهذا رأي كثير من النقاد والدارسين الذين كتبوا عني.

* ماذا عن الرواية عالمك الآخر بعد القصة القصيرة؟

– لقد بدأت كتابة الرواية قبل أن ألج عالم القصة القصيرة، وكان ذلك إبان فترة اعتقالي في سجن أبو غريب، وكتبت روايتي الأولى “بيوت العنكبوت” وقطعت شوطاً طويلاً فيها، لكن أثناء القصف الأميركي على العراق بتاريخ 17/1/1991 توقفت وحدث ان داهمتنا سلطات الأمن في السجن لأننا أضربنا عن الطعام، وأثناء المداهمة حاولت اخفاءها قبل أن ارسل الى قاطع الإعدام، لكنها فقدت ولا أدري أين ذهبت. خلال الغربة كان اهتمامي ينصب في كتابة بعض المقالات السياسية وترجمة بعض النصوص التي تخدم القضية العراقية فشغلت حينها عن كتابة الرواية، لكني شرعت منذ 2010 بكتابة رواية جديدة عندما كنت في أميركا، ولم تر النور الى الآن لظروف خاصة.