“اختبار الندم هكذا يصطاد الروائيون قرّاءهم !
جواد ديوب /
بحِيل روائية يصطاد طرائده من القراء المهيّئين ليقعوا في مصائده، ويغوي حتى أولئك الواقفين على التخوم مترددين وخائفين من الغوص في متاهات القراءة اللذيذة!
يشدّنا الروائي في كل ما يكتبه بحدسه “البدويّ” الذي يمكنه من صيد طرائده من القرّاء المهيّئين ليقعوا في مصائده الروائية، أو حتى أولئك الواقفين على تخوم الغواية مترددين وخائفين من الغوص في متاهات القراءة اللذيذة!
من الجملة الأولى لرواية خليل صويلح “اختبار الندم/دار هاشيت أنطوان”، والتي حاز بها جائزةَ الشيخ زايد للكتاب، يضعنا أمام سؤال إشكالي مُربك: ما هو الندم؟!.. لكن، ليخفف عنا جحيم الإجابة يقول لنا تعريفه الأوليّ كتمهيدٍ لكثافة المشاعر التي سنختبرها لاحقاً مع تدفق الرّوي: “الندم هو اعتذار متأخر عن أفعال كنا نظنّ أننا على صواب لحظة ارتكابها أو عدم تحقيقها لحظة التفكير بها، كأنْ أحيطُ خصرَك بذراعيّ عصر ذاك اليوم بذريعة أن المطر يستدعي حميمية مشابهة لما يحدث في الأفلام”.
حيلة روائية
لوهلة إذاً، نظنّ أنها حكاية عن حبٍّ سبق لورّاقه أن نثر نداه علينا في كتابه “ورّاق الحب” أو عن ندم عاشقٍ لم يعرف كيف يقول قلبه وعواطفه لمحبوبته فوقع في شرك الندامة… لكنها كعادة صويلح، هي حيلة روائية، طُعْمٌ جاذبٌ وساحر يرسم به مشاهد شريطه الروائي بعين مدرّبة على رؤية الحياة من خلف عدسة كاميرا، ليس فقط لتندغم أفكاره مع أفكار البطل/الكاتب والمدرِّب في ورشة تعليم السيناريو.. بل لأنه مثل مخرجٍ ألمعيّ يستعين بكل الأدوات والحيل السينمائية ليغني سيرورة قصته/قصص شخوصه، فهو يستعير دقّة المؤرخ، وحيوية الصحفي الذي يرصد ويوثّق اليوميات، وإن لزم الأمر ينتحل شخصية عالم نفس يضيء بخبرته الكشفيّة المجاهل المعتمة من نفسيات بطلاته.. لنتمكن من معرفة أنفسنا أكثر حين نقارن آلامنا الشخصية ونقيسها على آلام ومعاناة الآخرين!.
سردياتٌ تتخللها وقفات تأمل ذاتي وتقشيرٌ لطبقات المجتمع أو حفرٌ في متاهات البشر التي يقتلهم الضجر، و”ثقل هشاشتهم”: “أيامٌ مكرورة تصلح للاستخدام مرة واحدة مثل شفرات الحلاقة، وما بقي رغوة فائضة لا أكثر وأنت تحاول أن تضفي عليها معنى لوجودك في متاهة اللامعنى.. أو لإضفاء مهابة كاذبة على قائمة الموتى”. فاحتمالات الموت وتنويعاته وغزارته تتربص بنا في كل مكان كانتحار “يارا بغدادي” و”نايا مروان” من باب الاحتجاج على ما تعيشه البلاد من مذابح وانتهاكات وفجائع شخصية، وموت “فتاة الشعلان” التي عاشت وحيدة وماتت من الوحدة في مدينة أصبح الإنسان فيها لا يلتفت إلى عزلة فردٍ آخر إلى أن توقظه، عنوةً، رائحة جيفة جثة مهملة منذ أسبوعين!.
وسط كل ذلك الخسران وخرداوات الروح و”الأجساد المعطوبة مثل عجلة هوائية لا تصلح للنزهات”، تبزغ نسمة سخرية يدغدغنا بها صاحب “قانون حراسة الشهوة” كمن يمنح جليسه كأس ماء قبل أن يقدم له جرعة من مصارحات وبوح ثقيل، إذ بخبرة قارئي المخطوطات ومجلدات كتب التاريخ يعرّي بعض المحمولات الفكريّة التي بُني عليها مجتمعٌ يعتقد بيقينٍ مطلق أن ما ابتدعه هو الصواب وما عدا ذلك هرطقةٌ فلسفية تستحق الرجم كأية امرأة هي سلفاً مذنبة وحمّالة خطايا حتى يثبت العكس!.
كما أن الأماكن حاضرةٌ بقوة روائحها وعفونتها أو بطبقاتها التاريخية المتراكمة مثل صدأ يغطي تحفاً فنّية.. إذ تجعلنا التسميات الحقيقية نتخيل إمكانية الالتقاء بتلك الشخوص فيما لو ذهبنا الآن وفوراً إلى حديقة المتحف الوطني أو ساحة المرجة في دمشق.. وأننا سنجد البطل بكامل خيباته وندمه هناك على طاولته المعتادة في مقهى الروضة، وسننتظر معه “أسمهان” بكامل مشمشها ووصفاتها النباتية الغريبة التي تحاول أن تداوي بها روحها كأنثى مطلّقة محطّمة تعيش في قرية شبه مهجورة “مثل طائر مسالم خرّب عشّه الأشرار، يحاول لملمة حطام البيوض المكسورة”، أو “نارنج عبد الحميد” المتدرّبة في ورشة السيناريو وهي تحاول أن تمحو آثار ذئبٍ بشريّ نهشها وتركها بأذنٍ واحدة وقهرٍ لا تقدر معه كل روايات العالم ومشاريع كتابة السيناريو أن تزيل الإهانة المخزونة فيه. وسنختبر ذوبان الزمن مع جمانة سلوم المصورة الفوتوغرافية عبر ما تلتقطه من صورٍ/تعويذاتٍ “تكتب بها تاريخاً مضاداً للحرب، كأقصى ما يمكن عمله في أزمنة الجحيم للشفاء من مرض الكراهية”، إذ اتجهت بعدستها من التقاط الأعضاء المبتورة إلى اكتشاف كنوز الجسد المتعرّق من فائض اللذة في خَفَرٍ إيروتيكيٍّ ومفرداتٍ حميمةٍ تزيحُ عن العينين أهوال ما اختزنته من صور مُفزِعة.
الشبكة العنكبوتية، ونقطة الماسنجر الخضراء، ورنّة الرسائل الإلكترونية حاضرة أيضاً بوصفها جزءاً أصيلاً من المشهد كبوّابات جهنمية وفردوسية معاً يدخلها الراوي/البطل، ونحن معه، وتصله عبرها المباهج والمحفزات ومتمّمات الخيال على شكل دردشات ليلية أصبحت من لزوميات حياته والحياة الناقصة لتلك البطلات، وكأن تلك الشخصيات لا يمكن لها أن تكون ما هي عليه من لحم ودم إن لم نصدّق وجودها بالضغط على مربع الدردشة الأخضر أو إن لم نفتح رزمة البريد الالكتروني ونغوص في عالم الغبش الأزرق لكن بعيداً عن قوافل الحمقى من الكائنات الافتراضية الذين يشنّون حروباً لإفناء الآخر عبر بطولات وهمية، ويتقاسمون ركامهم وركاكتهم العاطفية وحشمتهم الكاذبة وصور السيلفي بالبيجامات!.
يمكن القول إنها رواية تداعب اللاوعي عندنا، فهي تنقر على وتر الذكورة المشتهاة في أن يكون أحدنا ملاذاً لتلك الفتيات، وتغري في نفس الوقت رغم كل الخيبات أحلامَ القارئات بأن يكنّ واحدة من تلك البطلات اللواتي يدرن في فلك صاحب الورشة السينمائية لعل حكايتهن تروى دون أي ندمٍ كشريطٍ مصوّر، أو يحظين بمشوار مسائي في شوارع دمشق المرسومة في عقل الكاتب بعناية الخيال. وبمجرد أن ندخل معه في اللعبة التخييليّة يخرج لنا صويلح بحيلة التغريب ليذكرنا بأن هذه مجرد رواية وليست واقعاً حقيقياً، وبالتالي فهي تحتمل كل الإضافات السحرية والفانتازية لجعلها تبدو أقرب إلى الواقع، وندرك أنها وخزة لنستمر في إعمال العقل ومنطقه، بدلاً من الاكتفاء بالغوص حتى العماء في متعة القصّ المشمشيّة والكرزية الحلوة!
أن تشعر بطعنة الندم يعني أنك لم تمت بعد. قد نموت قبل زمنٍ طويل من موتنا الحقيقي. نموت حين تصبح البلادة وعدم الإحساس بأي معنى أو خوف أو خطر ما يحدث في هذي البلاد هو الشيء الطبيعي والمعتاد. “اختبار الندم” صفعةٌ تعيدنا إلى حالة الانتباه، إلى حالة عدم الاستخفاف من الأمور التي نعتقدها غير ذات قيمة وهامشية، فيما هي من دون أن ندري تشكل حياة بأكملها.
كيف تعرف أن روايةً ما هي رواية جديرةٌ بأن تُقرأ؟.. تعرف ذلك حين تحزن بعد الانتهاء من قراءتها.. كأنك فارقتَ عزيزاً.