على هامش معرض الفنان زياد جسام النَّص التشكيلي وهوة التفكُّك الجحيمي

1٬073

د.رسول محمد رسول/

في تجربتي الفكرية، لا تومض لحظة التفلسُف، وفي أحوال غالبة، من دون وجود شاعر، فنان تشكيلي، يُحيي رميم جُذوة التفكُّر الخلاق في مخيال ذهني وعقلي. ليست تلك أحجية، بل هي ومضة صريحة عن أوليات انبثاق الأفكار الخلافة فيما أكتب.
في لحظة الخمول قد تكفيك قصيدة لأبي الطيب المتنبي، قد تكفيك لوحة لشاكر حسن آل سعيد، قصيدة للسياب أو لوحة لليلى العطار لتفتح لك أفق المعنى وكينونة الأشياء من حولك التي لا تنجلي إلاّ بوصفها فعلاً مؤوَّلاً، فكل وجود يتجلى في موجود لهو نتاج أصيل للخلق الجمالي الذي لا يكون هنا أو هنا إلا كتأويل، وهو التأويل الذي يمنح الوجود والموجود مقامهما الشعري وما دون ذلك هو وجود غُفل، لأنَّ الشعري يستكمل العقلي، والعقلي يستكمل الشِّعري وفق غائية الخلق، إنه تلازم جوهري لتحقيق لحظة الوجود الإبداعي الأصيل.

(1)

في عالم التشكيل الفني، عالم التشكيل التركيبي، في هذه العالم الإبداعي التي تأتي إلينا نصوصه تشكيلية المنحى، تتجلى قيمة ما هو مؤوَّل فيها أكثر وذلك لأن طاقة التجسيد الكامنة فيها هي أكثر توليداً للمعنى المرئي الذي يُنتج صوته، بل عطره الدلالي على نحو أجزل شدة وتوتراً من غيره.

( 2 )

في ومضة خلق تشكيلية، في نص نحتي – تركيبي أتى إلى دروبه الوجودية الفنان التشكيلي العراقي المبدع (زياد جسام) تحت عنوان (Sofa) = (أريكة) ضمّه معرض مشترك للفن العراقي في بغداد العاصمة خلال نهاية شهر شباط/ فبراير 2016، تنجلي نسمات ما يضوع به هذا النَّص من بنية تتأوَّل ما يجري في حالة الوجود من عصف مأسوي، فلسان الأريكة إياها يتكلَّم صوت الوجود، وضمناً صوت الفنان، صوت عمله الفني، صوت الدلالة فيه، صوت ما يريد قوله.

( 3 )

قد تنظر إلى (الأريكة) وحيدة، لا جالس ولا جليس، هذا الغياب الوجودي المدمِّر يُبدِّد المسافة من فوره بينك وبينك أنتَ؛ الداخل إلى موجودية الأريكة، وضمن دخولك إلى قاعة العرض حيث تواصلك مع فضاء المكان برمته.
لهذا الغياب حضوره الذي يستدعيك إلى تأمُّل قلقه؛ فالأريكة غير خشبية، ولا معدنية، ولا صخرية، إنها أريكة ورقية، أريكة ما تبقّى من كتب نجت من عين قرائها، بل هجرها قراؤها حتى انتظمت أريكة ولسانها يقول “تعال يا قارئي لقراءتي”، ولكن دون جدوى حتى تصيرت إلى ما يُجلَس عليه، صارت أريكة في محاولة كينونية منها لإغواء قارئ تتمنّى مروره علَّها لتتخلَّص من اغترابها الوجودي، لكن انتظارها وقد طال حتى اعشوشب الزرع من بين فجوات تحدوها لتبقى أريكه بلا جليس، أريكة كُتب بلا قارئ، الأريكة الرميم لعشب ينمو بين طياتها، أريكة اغتربت عن وجودها الحق لتستحيل إلى مجرَّد أثر هجيع الوجود.

( 4 )

في منحوتة (أريكة) التركيبية يغيب الإنسان – القارئ، يغيب الإنسان – الجليس. وبينما كانت – هذه (الأريكة) – تمكث في صالة العرض وسط بغداد كـ (أثر جمالي)، كان الإنسان العراقي يغترب عن الحياة، كان يفقد دمه بلا هوادة جراء العنف الدموي التدميري في مدينة الصدر والمقدادية ومناطق أخرى غرب وشمال العاصمة العراقية.
إن حضور الأريكة كأثر في صالة العرض يقابله تزامناً غياب الإنسان (القارئ أو الجليس) خارج الصالة؛ إنّها حالة اغتراب مزدوجة؛ أريكة داخل الصالة بلا جليس وأمكنة خارج الصالة بلا بشر بعد أن غادروها إلى غياهب الحياة الأخرى، غادرت إلى خارج الوجود والعالم.

( 5 )

يبدو الكتاب عاطلاً عن غايته الحقيقية، فما وجد الكتاب إلا ليُقرأ، لتمر عليه عين القارئ، لكنه الآن وقد أصبح مغترباً عن تلك الغاية، غادره القراء، غادره الوعي المتلقي، وهنا ثمة فجوة كبيرة سعى زياد جسام إلى ردمها إبداعياً عبر خلق الكتاب كمكانية للجلوس، كمحاولة إغوائية لاستعادة الكتاب موجوديته الغائبة عنه، ولكن حتى هذا المسعى لم يجد نفعاً؛ فقد أصبحت مكانية الجلوس معطلة، خاوية، تبكي غياب الآخر الجليس، الجليس – القارئ، أصبحت الأريكة – الكتاب معطلة عن غنائياتها والعشب أخذ ينمو بين جنباتها بحيث أخذ العلم طريقه إلى النسيان، وصار الجهل سيد المكان، وتلك مزية الحياة في مجتمعات الحروب القاتلة، حيث يصبح العلم عاطلاً والجهل ميسم الحال.

إن (أريكة) زياد جسام أو كينونتها فيما تريد قوله، هي تعميق للتفكُّك الجحيمي الذي نعيش، للخراب الذي يحيط بنا، لكنه الكتاب – الأريكة ينبت أملاً؛ ينبت وردة ملوَّنة، ما زالت الأرض خضراء، وذلك هو الأمل الإنساني.