أفضل أعمالنا ما لم نكتبه بعد الكاتب الشهير يقبع في الظل والعتمة

1٬150

عبد عون الروضان/

في زمن ما كان هناك كاتب تملأ كتبه واجهات المكتبات وتزدحم الصفحات الثقافية وغير الثقافية ربما في الصحف والمجلات بصوره وأخباره .. وهو يدخن ، وهو يضع يده تحت ذقنه متأملاً وهو يضع راحة يده اليمنى تحت خده الأيمن وينظر بشرود وهو يسير في حديقة بيته ساهماً مفكراً . أما عن أخباره فتنحصر بين موعد نهوضه في الصباح وبين استقباله عدداً من الأدباء في (صالونه) وبين لقائه بمجموعة من القارئات المعجبات بقصصه وأدبه ورواياته وبين إلقائه محاضرة في جمعية نسائية .. إنه أديب مشهور ملء السمع والبصر.
وكانت دور النشر تتسابق نحو طبع ونشر كتبه لتتلاقفها الأيدي الناعمة في الغالب ، تخبئها في الأدراج أوتحت الوسائد أوبين المقررات المدرسية .. السينما وجدت في أعماله مورد رزق “حلالا” حيث سجل شباك التذاكر لأفلامه مردودات كبيرة أينما عرضت .
هذا الكاتب الذي كان مشهوراً عرف آنذاك كيف يدير عجلة الدعاية لنفسه وكيف يسوق نفسه بخبرة ودراية .. أقام شبكة من الاتصالات بالصحف والمجلات والتجمعات الأدبية والثقافية ، وعقد صداقات مع الجميع وشكر كل من ذكر اسمه قاصداً أو مصادفةً مادحاً أو قادحاً المهم أن اسمه يظل يتردد بين السطور فلا ينساه أحد .
لكن الزمن يدور .. والسنين تكر ويظهر كل يوم جديد , مفاهيم تتغير وتطورات تشمل كل شيء حتى عقل الإنسان وتفكيره وإذا بالكاتب المشهور يجد نفسه فجأة في الظل .. لكنه ليس ظلاً وارفاً بل هو ظلٌ باردٌ يشعره بالقشعريرة والألم والخوف … لقد خبا نجمه شيئاً فشيئاً بهت بريقه حتى أفل .. فلا أحد يسأل عنه والصحف التي كانت تلاحقه بالأمس وتسأل عنه لا تسأل عنه الآن ..لا تنشر صوره ولا تشير إلى أخباره ..لقد تجاوزه الزمن .
الكاتب الذي كان مشهوراً بالأمس يقبع الآن في الظل البارد , لقد يلغ القمة , لكنه الآن في المنحدر يجر خطاه بتثاقل وهو ينظر إلى ما قدم من أعمال .عدد كبير من الروايات والقصص … كل رواية تجاوزت صفحاتها خمسمئة صفحة إنها تملأ رفاً بكامله في مكتبته الأنيقة .. لماذا إذن هذا النسيان ؟ أهو أمر متعمد بفعل الحاسدين والشامتين .. إنه يجلس كل يوم في مكتبه يناقش وضعه بهدوء وبصمت .. فهو الآن قد قارب السبعين واكتسب حكمة وتجربة حياتية جديدة وراح ينظر إلى المسألة من زاوية غير ضيقة .. الخلل يكمن فيه .. لماذا يحسده الآخرون ؟ ولماذا ارتفع نجم الكاتب الذي مات مغموراً دون أن يعرفه أحد . إن في المسألة سراً .. قال في نفسه لقد خدعوه إذن .. خدعه الذين كانوا يطبلون له وكانت لعبةً استجاب لها بغباء فراح ضحيتها .. تصور أن كل ما كتب عنه حقيقة ، وتصور أن كل ما قيل عنه واقع , وقال في نفسه إن الأدب الحق هوما يجب أن يخلد على مر السنين . فأين هو مما قدم أولئك البائسون الذين لم يلتفت إليهم أحد .أولئك الذين ماتوا وفي نفوسهم حسرة للدفء وللرغيف وثمن الكتاب . أولئك الذين ترتفع تماثيلهم في كل مكان وتدور المطابع في كل مكان لتخرج ملايين النسخ وبمختلف لغات العالم لرواياتهم وقصصهم ويتسابق كبار المخرجين السينمائيين في عمليات مبدعة لترجمة أعمالهم إلى واقع مرئي .
أين هو من أولئك الذين كتبوا وظلوا يكتبون بصمت وهدوء دون أن يعلنوا عن أنفسهم حتى اكتشفهم القاريء بنفسه وأجبر الناشرين على أن يقدموهم إلى ملايين القراء في كل أنحاء العالم .
أين هو هذا الذي يقبع الآن في الظل البارد وهو حي من أولئك الذين ماتوا بصمت وكان موتهم ولادة .. وأين هو من أولئك الذين أبدعوا بصمت فكان صمتهم إعلانا رائعا .
يصمت الكاتب الذي كان مشهورا في يوم من الأيام , وازداد يقينا بأن الزمن يقهر كل الجبابرة ، لكنه لم يستطع أن يقهر بيتا من الشعر لكلكامش أو المتنبي أو عبارة لديستويفسكي أو مالرو أو جملة مفيدة لطه حسين .
الكاتب الذي كان مشهورا يود لو أوتي عمرا جديدا لبدأ يكتب من جديد , سيحرق كل ما كتب وسيسهر الليالي ويجوع ويبرد ويعرى من أجل أن يكتب بصمت حرفا صادقا وكلمة خيرة تبقى شمعة على قبره .
يصمت الكاتب ويود لو باع كل ما كتب لقاء قصة واحدة مثل صمت البحر أو قصيدة واحدة مثل قصيدة علي بن زريق البغدادي أو مالك بن الريب أو بيتا من قصيدة للمتنبي .
الكاتب الذي كان مشهورا فأصبح الآن حكيما يقبع في الظل , يبتسم بألم ولكن بسعادة لأنه يكتشف أن لعبة الشهرة قد تبنى على أساس واه فتنهار فجأة بفعل الزمن الذي لا يرحم ويتأكد بأن الزبد يذهب جفاء .
يبتسم الكاتب الذي كان مشهورا بألم ولكن بسعادة ويقول : طوبى لكم أيها الذين تكتبون بصمت حروفا لا تمحوها الرياح ولا الأعاصير .. طوبى لكم لأنكم تكتبون بدم القلب ودمع العين .

* ******

فرح الكاتب الكبير عندما أدرك أن كل ما مر به لم يكن إلا كابوسا مزعجا فراح يجيل النظر في صفوف الكتب في مكتبته المتواضعة وهو يشعر بالسعادة لأنه استطاع أن يقدم ما قدم , لكنه تمنى أن يعطى العمر ليكتب ما لم يكتب فخير أعمالنا هو ما لم نكتب بعد , قال في نفسه بحسرة.