النرجسية الخبيثة.. أوهام العظَمة والفخامة والأبَّهة

د. قاسم حسين صالح/

النرجسية وحكايتها معروفة، وتقول أسطورة إغريقية: أن “نرسيس” ابن إلهة الأنهار كان شاباً “جميلاً جداً”، فوقعت في غرامه إحدى ربّات الإغريق الجميلات واسمها “ايكو”، لكنه لم يبادلها نفس الشعور، فألقت عليه لعنة حب نفسه، بأن افتتن بصورة وجهه الجميل التي كان يراها كل يوم على صفحة بركة ماء. ولأنه لم يستطع مبادلة صورته الجميلة مشاعر الحب، فقد خيّم عليه الحزن الشديد ومات في مكانه.

قررت ربّات الطبيعة أن يقمن مراسم تشييع لجنازة الشاب الجميل، وهنا حدثت المفاجأة اذ لم يجدن أثراً لجثته، بل وجدن وردة جميلة، أطلق عليها “نرسيس”.

فيما تقول رواية أخرى أن “نرسيس” هذا كان كثير التحديق في نفسه على وجه بركة الماء حتى مرض نفسياً بسبب هذا التعلق، ثم فقد عقله ورمى بنفسه في البركة ليمسك بصورته ولكنه غرق وفارق الحياة ونبتت في مكانه وردة أطلق عليها “زهرة النرجس”.

عاشق الذات

ولقد وجد علماء النفس أن بين الناس أشخاصاً يعشقون ذواتهم، ولما درسوهم وجدوا أنهم مرضى نفسياً، فأطلقوا على هذا الصنف مصطلح (الشخصية النرجسية) وحددوا أعراض هذا الاضطراب بتسعة، بينها: الإحساس بالتكلف أو الزهو بأهمية الذات والمبالغة في المواهب، الردّ بغضب على النقد، استغلال العلاقات الشخصية للوصول الى غايات خاصة، السرحان في أحلام يقظة ونجاحات خيالية، فإذا كانت لديه اهتمامات أدبية مثلا فإنه يتنبأ لنفسه بالحصول على جائزة نوبل في الآداب ويوحي للآخرين بأن توقعها أمر عادي بالنسبة له، يريد من الآخرين الحب والإخلاص دون أن يكون معطاءً أو قادراً على إدراك مشاعر الآخرين وتحسسها، وحاله في حاجته الى الإعجاب كحال جهنم، يسألونها: هل امتلأتِ، فتقول هل من مزيد!.

شاغل الأطباء

كان هذا هو شاغل الأطباء النفسيين والسيكولوجيين الى عام 1964..ففيه نحت عالم النفس الاجتماعي ايريك فروم مصطلح النرجسية الخبيثة(malignant narcissism)، واصفاً إياها بأنها (مرض عقلي حاد.. وأنها تمثل جوهر الشر)، محدداً حالتها بأنها (المرض الأشدّ حدة، وجذر الحالات الشريرة الأكثر وحشية ضد الإنسانية). وفي عام 1967 وصف عالم النفس (Edith Weigert)النرجسية الخبيثة بأنها هروب نكوصي من الإحباط الناجم عن تشوش أو إنكار للواقع، فيما وصفها الطبيب النفسي Herbert Rosenfeld بأنها نمط مشوش من الشخصية النرجسية حين تكون العظمة، الأبهة، الفخامة قد بنيت على العدوان، وحين تكون الجوانب التدميرية للذات قد اكتملت.

متلازمة اضطراب

وبتطور هذه الأفكار توصل المحلل النفسي Otto Kernberg الى أن الشخصية المضادة للمجتمع هي أساس او جوهر الشخص النرجسي عديم الأخلاق، بمعنى أن السادية السيكوباثية هي الخاصية المميزة للنرجسي الخبيث. ومع أن (أوتو) كان اقترح في العام1984ادخال النرجسية الخبيثة في دليل الطب النفسي الأمريكي ودليل منظمة الصحة العالمية بوصفها تشخيص طب نفسي، فإنها لم تقبل في الدليلين المعتمدين.

ولقد وضع المحلل النفسي الفرويدي هذا (أوتو)توصيفاً لها بأنها متلازمة من اضطراب الشخصية النرجسية وصفات من الشخصية المضادة للمجتمع، وسمات من البرانويا.. مضيفاً لها صفات غياب الضمير والحاجة النفسية للقوة والشعور بأهمية فخامة الذات. وبتشخيص مشابه، وصف بولوك Pollock النرجسية الخبيثة بأنها شعور مرضي بالفخامة، ونقص في الضمير وانتظام السلوك مصحوب بالقسوة والساديّة التي تمنح صاحبها الشعور بالمتعة والبهجة.

الخبيثون

ويتفق علماء النفس والأطباء النفسيون بأن الأشخاص النرجسيين كثيرون فيما النرجسيون (الخبيثون) قليلون، محددين الفرق الرئيس بينهم بخاصية الساديّة او الاستمتاع غير المبرر برؤية الآخرين يتألمون. فالنرجسي (العادي) يتعمد مواصلة إيذاء الآخرين لرغبات أنانية ولكنه يمكن أن يعتذر وقد يظهر بعض حالات الشعور بتأنيب الضمير، فيما النرجسي (الخبيث) يؤذي الآخرين ويستمتع بذلك مظهراً القليل من الشفقة او الندم لما حصل لهم من أذى. غير أن متابعتنا الشخصية على الصعيد العربي أوصلتنا الى أن الحكّام المصابين بالنرجسية الخبيثة(او الحقودة لدلالتها السيكولوجية على الانتقام) يكونون قساة بوحشية، عديمي الضمير لا يشعرون بالذنب لما سببوه من أذى للآخرين، بل أنهم يستمتعون برؤية من يعذّبون، ولا يشعرون بالندم على ضحاياهم وإن دفنوهم أحياء تحت الأرض.

والمفارقة أن الرئيس معمر القذافي كان نموذجاً للنرجسية الخبيثة في العالم، التي ما كانت شائعة ولا معروفة في زمانه.. وأن الفضل في إحيائها وانشغال السيكولوجيين والأطباء النفسيين بها يعود الى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.. الذي صوّره الإعلام الأمريكي بأن نرجسيته الخبيثة، التي أشاعها عنه السيكولوجيون، ستجعل منه (مجنوناً)، فيما هو بالمقارنة مع معمر القذافي وصدام حسين الأعقل في حبّه لوطنه وشعبه.