من المسؤول عن ظاهرة “السلوك العقربي” في المجتمع العراقي؟

علي غني /

السيدة (فضيلة) الميسانية (التي لا تملك تحصيلاً دراسياً)، ومصابة بشتى الأمراض المزمنة، مضى عليها أكثر من عشرين سنة تراعي طفلها المصاب بالصرع (الذي أصبح شاباً)، لم تمل يوماً أو تتشكى لأحد حتى من أسرتها، كانت تناوله (حبة الصرع) في الثالثة ليلاً من دون ملل أو كلل.
والسيد (مرتضى) الذي توفيت زوجته المريضة منذ أكثر من عشر سنوات، ولديه خمسة أولاد، لم يتزوج بأخرى حفاظا على مشاعر أولاده، وهو يواصل العمل نهارا وليلا من أجل توفير لقمة العيش لهم.
بينما قذفت الست (نون) بلحظة غضب ابنها الوحيد في أحضان عائلة زوجها إثر شجار بسيط، ولم تلتفت اليه على الرغم من أنه لم يبلغ بعد السنة، في حين ترك (دال) أولاده عند والدتهم بعد صدور أمر الطلاق من المحكمة الشرعية، من دون أن يتكفل بمعيشتهم .
شتان بين الاثنين
شتان بين السيدة (فضيلة) والست نون، وبين السيد (مرتضى) والسيد (دال)، ولماذا تحدث عندنا الآن ظاهرة نبذ أولاد الزوجة من زوج آخر، وأولاد الزوج من الزوجة الاولى، عندما يختاران طريق الزواج الثاني بعد فشلهم في الزواج الاول، بحجج واهية، منها أجداده كبار بالسن أو والده في السجن أو عمامه وأخواله يرفضون تربيته، أنا أطلق على سلوك (نون)، و(دال) أو من يترك أطفاله الذين من (صلبه)،بالسلوك العقربي؟ فتعالوا معنا، نكتشف هذه الظاهرة الجديدة والغريبة عن المجتمع العراقي.
نعم بكيت
أطفال بعمر الورد متعلقين بأذيال عمهم، ويتوسلون به، أن يبقي أمهم بالبيت، سلاحهم الوحيد البكاء، لكنهم لا يسمعون من عمهم الا الشتائم والضرب، وهو يصرخ بوجههم أن أمهم (خائنة)، وتستحق الطرد من البيت وأنتم تستحقون (اللعنة)، لأنكم أولادها؟!، ولم تنفع توسلات الناس الذين يشاهدون الواقعة التي حدثت في إحدى المناطق الشعبية، فاكتفى العم بدفعهم داخل الدار، ولكم أن تتصوروا (عويل الاطفال)، فقلت مع نفسي (من يحمي الاطفال)، ومن يستطيع أن يوجه أصابع الاتهام، لهذا (العم)، بأنه خرق حقوق الإنسان، وهل لدينا قوانين صارمة تحافظ على حقوق الاطفال؟، تساؤلات تدمي القلب، وتستحق البكاء، تحتاج لشجاع يكشف الحقيقة!.
ظاهرة (الذهبي)
الحقيقة أول من نوه الى هذه الظاهرة، الاستاذ هشام الذهبي مدير البيت العراقي للابداع، الذي أقسم بأغلظ الايمان أن (البيت العراقي للابداع) مختص برعاية الاطفال المتروكين في الشوارع أو الايتام الذين ليس لديهم من يرعاهم أو لديهم مشاكل نفسية واجتماعية، أو ليس لديهم أهل نهائيا، ونعمل على تأهيلهم وتعليمهم وتثقيفهم ومن ثم نبحث عن عم أو خال أو جد، ونقوم بدمج الطفل معهم، بعد أن نتأكد من أنه الشخص الذي يتسلمه جاد برعايته ويمتلك إنسانية، ونستمر بمتابعته، وليس العكس، أي إننا نأخذ طفلا من البيت لديه أسرة، لكي نقوم بتربيته (والاب والام يتزوجان)، كل يوم وينجبون المزيد من الاطفال المشردين والمحرومين والمستغلة من قبل أسرهم.
قلت(للذهبي)، كيف تفسر هذه الظاهرة الغريبة التي بدأت تفرض حضورها على الاسرة العراقية، فأجابني: قد تكون الاسباب واضحة أن الام والاب يتخلون عن أبنائهم بسبب الزواج الثاني، زوجة الاب لا ترغب بالطفل او زوج الام لا يرغب بالطفل، وأحيانا أن الطفل نفسه لا يرغب بزوج الاب والزوجة الام بسبب التعنيف والاهمال والحرمان وسوء المعاملة والضرب وأحيانا تصل حتى الى (الاعتداءات الجنسية؟!)، ولهذا يلجأ الطفل الى الشارع في الكثير من الاحايين، وأضيف لك (والكلام للذهبي): تشتت الطفل ما بين الام وزوجها والاب وزوجته هو أحد الاسباب الرئيسة لمغادرة الطفل الاسرة، لأن الطفل لا يشعر بوجوده؛ لا في هذه الاسرة ولا في تلك الاسرة، وغالبا ما يترك الطفل عند الجد والجدة وبالتالي بسبب كبر سن الجد والجدة لا يقدرون أن يرعوه ويقدمون كل الخدمات له، لذلك تجده إما في الشارع او تجده في كثير من الاحيان في دور الايتام او دور الاحداث، او دور المشردين او حتى في سجون الأحداث (يا ساتر قلتها مع نفسي).
وأوكد لك (يا أخي، ويقصدني): إن أموراً كثيرة قد طرأت على المجتمع العراقي وتغيرت أشياء كثيرة للاسف الشديد، الكثير من الادوار اختفت سابقا، كان هناك دور كبير للأسرة ومن ثم دور كبير للمدرسة ووسائل الاعلام، التي كانت هادفة لا تستخدم إلا للأشياء التي تنفع المجتمع، ولا تنسى (والكلام لهشام): نضيف لهذه الاسباب الحروب والاحتلال وداعش والقاعدة والحرب الطائفية، كل هذه غيرت من تركيب المجتمع وحتى من أخلاقه للاسف، اليوم الاسرة تخلت عن واجبها لا نقول كل الاسر، ولكن أكثر من (٦٠ ٪ )تخلت عن واجبها تجاه أطفالها والمدرسة للاسف الشديد (أقولها بصراحة)، أصبحت طاردة وليس جاذبة للطلاب، كما أن التعليم شبه (منتهٍ)، لا سيما في العامين الاخيرين، بسبب جائحة (كورونا)، توقف التعليم وأصبح عن بعد، وكما أسلفت بالنسبة لوسائل الاعلام تخلت عن دورها الاساسي وأصبحت تابعة لأجندات داخلية، أو خارجية، او تابعة للأحزاب .
حقوق كاملة
ما الحلول؟، قلت (لمدير البيت العراقي للابداع )، اسعفنا، ساجيبك، ولكن اتمنى أن يأخذ كلامي بنحو جاد من الحكومة، إذن، قل: نحن نحتاج الى مؤسسات، وليس الى دور مؤسسات تأخذ على عاتقها رعاية الاطفال والاهتمام بهم وتكون مسؤولة عن التعليم والصحة والبيئة، وأيضا مسؤولة عن تشريع قوانين تخدم الطفولة بما يتناسب مع الظروف الحالية التي يمر بها العالم ككل، وأن تقوم هذه المؤسسات بإجراء مقارنة بين أطفالنا في العراق وأطفال الدول المجاورة على الاقل، إن لم يكن أطفالنا يتمتعون بحقوق كاملة كأقرانهم في الدول المجاورة، فعلى الاقل يتمتعون بنسبة بسيطة منها، اليوم نحتاج كل الجهود تتضافر من أجل أن نقف الى جانب الطفولة بالعراق، وقاطعته، كيف؟، فأجابني: يجب أن تشرع قوانين تحمي الاطفال لا سيما في حالة طلاق الام والاب وأن تضع ضوابط وشروطا على الزوجة الثانية وعلى الزوج الثاني لغرض الاهتمام بالاطفال مع تعهدات خطية بعدم إهماله وضربه او الاعتداء عليه او العمالة المبكرة والتسول او الاتجار بالبشر، كل هذه الاشياء يجب أن يوقع عليها عند الزواج الثاني لكي يتم الزواج، لأنه في حالة الطلاق يكون المتضرر الاكبر الاطفال.
تفعيل دور الايواء؟
أنا اقف بكامل إحساسي ومشاعري مع الاستاذ هشام الذهبي، هذا ما قاله الاستاذ حيدر قيس القرة غولي رئيس مؤسسة الوحدة العراقية لحقوق الانسان: إننا يجب أن نشرع قوانين وأنظمة عراقية تتوافق مع الانظمة الدولية وتخصيص مبالغ مالية للجهة المختصة وتفعيل دور الايواء وزيادة الاعداد، كما أجد من الضروري تفعيل دور الباحث الاجتماعي في القضاء ومحاولة تقليل ظاهرة الطلاق مما يؤثر على الطفل، الى جانب دعم ورعاية الطفولة من خلال برامج تعمل عليها الدولة، وتوفير السكن المناسب لهذه الفئة، كما أدعو بكل شدة الى محاسبة أولياء الامور لترك أولادهم في الشوارع والطرقات وتفعيل فرق المراقبة والشرطة المجتمعية في وزارة الداخلية مع فرق وزارة العمل وفتح دور إيواء جديدة ذات مواصفات تخدم الطفل وبأعداد كبيرة، وأقول لك حقيقة، إن قانون الاحوال الضامن للحقوق ولكن عملية التطبيق صعبة جدا لا سيما دخول الشأن العشائري وتأثيره في العلاقات الاجتماعية، لا سيما مع الاطفال.
التوجه القبلي؟
وبين الشيخ ماجد الجبوري، المشرف العام لحوزة الامام الجواد (عليه السلام) للدراسات الاسلامية أن هذه الظاهرة تعكس التوجه القبلي الغالب على المجتمع، الذي ينأى بالوجه الحضاري المدني، والمفترض أن يعيشه سكان العراق، بغض النظر عن الرقعة الجغرافية وحدودها،حيث إن الواقع الذي يشهد التحرك نحو التطور التكنولوجي والمعرفي لا بد أن يعكس آثاره على المجتمع إيجابيا، وأن يبتعد عن المؤثرات القبلية السلبية، ولأنها صورة من التدني الانساني والحضاري؟
ويواصل الجبوري حديثه، فالظلم بصوره المتعددة، اذا تعلق بجانب أسري، فهو يعكس صورة أخلاقية سيئة، تتطلب العودة الى التحلي بالاخلاق الحسنة، ومراعاة الجوانب الانسانية الفطرية، فالاسرة لا تبنى من حيث تتفكك، واشتراط ترك أولاد الزوجة الثانية، او كانت مرتبطة برجل آخر، ورزقها الله تعالى الابناء، لا يمكن أن تحرم من أبنائها لترتبط برجل وتبني أسرة جديدة على أساس تفكك الاولى، وهذا عمل لا يرتضيه الشارع المقدس، فضلا عن المقام الانساني المتحلي بالعقل والحكمة والرحمة.
وأنوه الى أصحاب العقول الناضجة (والكلام للشيخ ماجد): إن البناء الاسري وارتباط الرجل بالمرأة، في أي مرحلة من مراحل الحياة، لا بد أن يبنى على أساس متين من المودة والرحمة، التي حث الله تعالى عليها (وجعل بينكم مودة ورحمة)، وهي تتمثل بالعدل والاحسان، وعدم ظلم الآخر وسلبه حقا من حقوقه، وما ظاهرة نبذ أولاد الزوجة الاجانب سيئ جدا، وتصرف متخلّف ومتوحش بعيد عن الانسانية، ويجب العمل على توعية المجتمع، والارتقاء به الى المستوى الذي يحفظ له كرامته وعده كانسان متقوم بالعقل السليم.
سلوك العقرب؟
انا أطلق على هذه الظاهرة (السلوك العقربي )، فهؤلاء الازواج أو الزوجات، يقومون بقتل أولادهم، مثلما تقوم أنثى العقرب بقتل الذكر بعد التلقيح، وتلقيه خارج البيت، وبعد أن يكبر الاولاد يقومون بقتل الأم وإلقائها خارج المنزل، بيت عجيب من أسوأ البيوت على الاطلاق، لقد وصفها القرآن بآية واحدة: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)، والا ماذا تفسر تخلي الام أو الاب عن أجمل شىء بالوجود، الاهم الاطفال الذين يمثلون الرابطة الاسرية، إنه القتل بعينه، ينتج لنا جيلا خاليا من الرحمة، وتضيف الى مآسي العراق مأسي أخرى، إننا نرفض تلك الامهات وهؤلاء الاباء الذين يحطمون الوطن، ويقتلون روح الامل والتفاؤل بين أفراد المجتمع، وعلينا جميعا أن نقود حملة كبيرة على هذه العقارب الدخيلة على المجتمع العراقي المعروف بالطيبة والكرم حتى مع الغريب.
التحليل النفسي
ويعزو الباحث والمعالج النفسي أحمد محمد شاكر الخفاجي /ماجستير علم نفس تربوي/ في مستشفى ابن رشد التعليمي /أسباب تخلي الازواج عن أبنائهم، هو التنشئة الاسرية التي تفتقر الى الاهتمام بالابناء وتحمل المسؤولية، إضافة الى ضعف الحالة الاقتصادية وعدم القدرة على إيجاد الحلول، فلذلك تجد أن أحد الابوين يفضل الحصول على المال مقابل التخلي عن الابناء او الارتباط بشريك آخر ميسور الحال. كذلك عدم تكفل أهل الزوج او الزوجة بالابناء مما يجعله عبئا على الام وأحيانا على الأب أيضا. وأرى أن التغيرات الاجتماعية حتمية الحدوث بسبب تعقد الحياة وصعوباتها وانتقال المجتمع العراقي الى مجتمع رأسمالي شديد المنافسة، وما الحلول من وجهة نظر علم النفس؟ أقول لك (والكلام للخفاجي): إيجاد مؤسسات ساندة للاسرة وللابناء تكفل العيش بكرامة وتوفر السكن الملائم، كذلك تفعيل الضمان الاجتماعي والضمان الصحي والتعليم الجيد وإجبار الزوج على دفع ما يترتب عليه تجاه الابناء في حال الانفصال.
مشاريع للايتام
لكن مؤسسة العين للرعاية الاجتماعية التي زرنا بعض فروعها، وجدنا من المناسب الافادة من مشاريعها التي تقدمها للايتام، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أبناء المطلقات أو المطلقين أيتام بصورة (غير رسمية)، فإن المؤسسة تمنح رواتب وإرشادات، والاهتمام بالجوانب التربوية، وتعتني بمتابعة دراستهم، وعدم تسربهم من الدراسة، الى جانب متابعة حالاتهم المرضية، فضلا عن تمكين الارامل من اكتساب المهارات في الخياطة والصناعات البيتية وتحقيق الاكتفاء الذاتي للأرامل، إذا ما عددنا حياة المطلقات تتشابه في العديد من الأوجه بحياة الارامل، فهل ستأخذ الحكومة بهذه المقترحات، وهل سيصوت مجلس النواب على قانون حماية الأطفال في العراق؟