أوروك.. حضارة لم تُكتشف كنوزها

يوسف المحسن /

معبد كاريوس بأقواسه وأعمدته المدورة، وزقورة أيننا، والمعبد الحجري، ومعبد كرندش.. شواخص مازالت ثابتة في مدينة أوروك الآثارية منذ ما يزيد على خمسة آلاف عام، لكن أعمال التنقيب لم تكشف سوى خمسة بالمئة مما يعتقد وجوده تحت الكثبان، هي أوروك.. مدينة الحضارة الأولى.
أوروك اليوم
موقع أوروك الأثري يقع إلى الشمال الشرقي من مدينة السماوة، ضمن الحدود الإدارية لقضاء الخضر، سكنه إنسان عصور التاريخ الأولى، يضم معابد لأداء الطقوس والشعائر مثل: معبد نركال، ومعبد أوتا حيكال، وبيت ريش للمناسبات الدينية والعبادية، ومعبد الإله أونيل، كما أن الزقورة الشهيرة فيه هي واحدة من أهم تلك المواقع حيث ترتفع بـثمانية وعشرين متراً عن سطع البحر.
أحيطت المدينة الأثرية بسور بناه الملك جلجامش قبل 4000 عام، وقد اندثر. في الوركاء اخترعت الكتابة لأول مرة في التاريخ، وعُرفت العجلة التي شكلت ثورة في المنظور الميكانيكي والحضاري، كما ابتكرت أساليب الزراعة بصورها الأولى. فيما تشير الدراسات إلى أن الوركاء القديمة كانت تحتوي على مجلس شيوخ يعينه الملك للمساعدة في الحكم، أما قصر الملك كلكامش فيتكون من جدران مربعة وممرات تؤدي إلى منخفض القصر وصولاً إلى غرفة الملك، وكلكامش الذي شيد مملكته على هذه الأرض، ارتفعت في أيامه القصور وتطورت الكتابة المسمارية والأختام الأسطوانية وتطورت الزراعة وتربية المواشي وبنيت مدارس تختص بالعلم في المعابد وشيدت القلاع العملاقة للحماية وطُورت طرق البناء.
ذوو الرؤوس السود
تشير الترجمات المتفرقة للرُقم والألواح الطينية القديمة إلى أن السومريين أطلقوا على أنفسهم تسمية ذوي الرؤوس السود، وهي التسمية التي نقلها وتداولها عنهم الأكديون في وصف سكان وسط وجنوب العراق القديم، الأكديون أيضا استخدموا اللغة السومرية دون الأكدية لسهولتها ووضوحها في التدوين والكتابة على البردي، وهو ما سجله المؤرخ الشيشاني سيمكوغ، الذي ذكر أنهم يضعون على رؤوسهم طاقية مصنوعة من جلد الجدي. ويشترك مع سيمكوغ عدد كبير من علماء السومريات مثل صاموئيل نوح كريمر، وأنطون مورتكارت، وطه باقر، وموسكاتي، وجورج رو، وهند كوك.
ويورد صاحب كتاب (قصة الحضارة) وول ديورانت في جزئه الأول ص 212 وصفاً للإنسان السومري، يذكر فيه أنهم كانوا قصار القامة بأجساد ممتلئة وجباهٍ منحدرة قليلاً للوراء وعيون مائلة إلى الأسفل وأنوف شم مصفّحة، وأن معظمهم كانوا ملتحين، لكن البعض منهم كان حليق الذقن، فيما الغالبية كانوا يحفّون شواربهم ويرتدون ملابس من جلود الأغنام ومن الصوف المغزول، ومآزر يشدونها على أوساطهم ويتركون الجزء العلوي من أجسامهم مكشوفاً، ومع الأيام امتدت الملابس لتغطي الرقبة، فيما السومريّات كن يضعن مآزر حول خصورهن، والموسرات منهن كن يضعن أخفافاً من الجلد الليّن الرقيق في أقدامهن، وقلنسوات على رؤوسهن، وكانت الأساور والخلاخيل والقلائد والأقراط والخواتم هي الزينة التي يعكسن بها مكانتهن الاجتماعية.
عودة لوح كلكامش..
تشكل عملية إعادة لوح كلكامش الى المتحف العراقي، رفقة الآلاف من القطع الاثارية المهربة من العراق خلال العقود الماضية، أكبر دعم يمكن أن يحصل عليه موقع أوروك الأثري بعد خمس سنوات على إدراجه من قبل لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) على لائحة التراث العالمي. اللوح يمثل أقدم النصوص المدوّنة، ويعود تاريخه الى الألف الثاني قبل الميلاد، يحكي جانباً من سعي ملك اسمه كلكامش، وهو ابن الإلهة ننسون، وأبوه بطل أسطوري، ملك يبحث عن الخلود، وتصف أبيات الملحمة المكتوبة باللغة السومرية قبل أن تترجم إلى الأكدية، ثم العربية، ملك أوروك بأن ثلثه إنسان وثلثيه إله، وتتناول النصوص أعماله وصفاته ويوميات رعيته.
إعادة اللوح سلطت الأضواء من جديد على مدينة أوروك الأثرية وأعادتها الى دائرة الاهتمام، وتأمل مديرة الآثار في محافظة المثنى إيثار قاسم مشكور أن تكون هذه الخطوة فاتحة خير لإتمام عمليات التنقيب داخل المواقع الاثرية. قاسم قالت إن خمسة بالمئة فقط من أعمال التنقيب قد اكتملت، لكن المدينة الاثرية مفتوحة أمام السائحين والدارسين، وتضيف: “مدينة الوركاء مفتوحة حالياً للسياح الذين يأتون من مختلف دول العالم، وهناك مهتمون عراقيون ودارسون ومجاميع سياحية، وقد خصصنا اثنين من المرشدين السياحيين لمرافقة الوفود والزائرين.”
مديرة الآثار أضافت أن “عدم اكتمال المنشآت الخدمية الملحقة يعد عائقاً، لكننا نمتلك خططاً طموحة للتطوير وبانتظار التمويل،” مشددة على “أن أخطاء الماضي التي أسهمت في سرقة وتهريب الآثار العراقية لن تتكرر، إذ نعمل على تلافيها من خلال مواصلة عمليات الحماية للمواقع الأثرية والتاريخية والتراثية وتسيير دوريات مشتركة بين شرطة حماية الآثار وبين الحراس المدنيين.”
وأشارت قاسم إلى أن “أغلب التجاوزات التي تحصل على المواقع الأثرية والتاريخية هي زراعية، أو من جهات حكومية، والبعض منها غير مقصود وغير مخطط له، خلال فترات سابقة، ولقد عرضنا البعض من هذه التجاوزات على المحاكم المتخصصة.”
سر الاهتمام الألماني..
الفرق التنقيبية الألمانية أكملت مئة عام من التنقيب في الموقع الأثري، عمليات التنقيب شهدت توقفات عدة، لكنها نجحت في إظهار هذا الكم الغني من المواقع ومن اللقى والمقتنيات التي تحفل بها المتاحف العراقية.
تقول مديرة الآثار، التي سبق لها العمل في العام ألفين وتسعة ضمن فريق التنقيب داخل مدينة أوروك الأثرية: “إن الأعمال كانت مشتركة بين الخبراء الألمان والفريق البحثي العراقي، وهي الآن متوقفة، ونحن نعمل على تأهيل البنى والمرافق الخدمية في الموقع،” نافية -في الوقت ذاته- وجود اتفاق على تقاسم اللقى والآثار المتشابهة بين الفريق الألماني والحكومة العراقية، إذ قالت: “كل اللقى الأثرية التي يُعثر عليها تسلم إلى المتحف الوطني العراقي كونها ملكاً للعراق ولشعبه، ولا صحة لما يجري تداوله عن وجود اتفاق مع الألمان يضمن لهم أي شكل من أشكال استغلال الآثار العراقية.” مضيفة: أن “ضوابط الهيأة العامة للآثار والتراث جددت بالكامل وبما يتناسب مع حماية وحفظ الآثار.”
موناليزا الوركاء..
في جناح من الأجنحة الصغيرة التي يضمها متحف المثنى الحضاري -وسط مدينة السماوة- ثمة مجسمات، البعض منها جبسي مقلد والآخر أصلي للقى والتماثيل التي جمعت من عمليات التنقيب، صورة ومجسم موناليزا الوركاء تعد الأكثر جذباً لأعين الزوار، فالتمثال الذي يمثل وجه فتاة أوروكية، المنحوت من الرخام، يعد تحفة فنية ذات قيمة تاريخية هائلة تعكس جانباً من رقي حضارة إنسان وادي الرافدين، الوجه البشري يعود الى القرن الثاني قبل الميلاد، يبلغ ارتفاعه عشرين سنتيمتراً. الخبيرة إيثار قاسم قالت: “أمام أعداد المواقع الأثرية في المثنى، نحن بحاجة الى متحف كبير بمواصفات كاملة، نموذجي يواكب التطور في علم الآثار ويراعي عوامل الرطوبة والإضاءة والمؤثرات الأخرى، وفي الوقت الحالي نحن لا نمتلك مثل هذه التقنيات التي تكفل الحماية الكاملة للقى الأثرية.”
كذلك يحتوي المتحف على مخارط فخارية كانت تدفن عند أبواب المباني التي يشيدها الملوك، يذكر فيها اسم الملك والمعبد أو القصر الذي بناه، وأختام اسطوانية وجرارٍ وأوانٍ وكؤوس وقبور من الفخار ودمى فخارية أيضاً تمثل مشاهد حياتية ومباخر وزمزميات وصحوناً وقلائد، فيما ينتصب تمثال لأسد مجوّف قرب مسلة من حجر البازلت الأسود النقي نُقشت عليها صورة الملك نبونائيد ودونت أعماله التعبدية على وجهها الثاني.
مقتنيات تؤكد علو كعب حضارة إنسانية كانت الأولى في بناء الورش والمعامل وخلط الألوان والتشكيل الزخرفي وتطويع المعادن والنحت، تضاف الى ريادتها في الكتابة ونظم الري، إذ يقدم الإناء النذري البالغ طوله 105 سم المصنوع من حجر الكلس الأبيض، الذي وجد في أوروك ويعود للألف الثالث قبل الميلاد، شرحاً في أربعة حقول أفقية قسمت الى: حقل سنابل القمح على ضفاف الفرات، وآخر يظهر قطيعاً من الماعز والأغنام، والثالث يمثل موكب رجال عراة يحملون سلال الفاكهة، وفي الحقل الرابع يجري تقديم الهدايا والنذور أمام معبد الإلهة عشتار.. مقتنيات ونفائس تشير الى كنوز هائلة مازالت غير مكتشفة في مدينة قيل إنها أكبر تجمع بشري في تلك الحقبة.