ابطال سرية ” عريس كربلاء ” قتلوهم مرتين

مجلة الشبكة /

يفند الفيديو الذي نشره تنظيم “داعش” الإرهابي، لجريمة قتل جنود الجيش العراقي في العظيم، الفرضية التي وضعها وزير الدفاع جمعة عناد، خلال حديثه المتلفز لقناة العراقية، التي رسم فيها سيناريو تحليلياً لعملية نفذت من قبل مجموعة من أفراد التنظيم الإرهابي استغلوا فيها حارس حماية السرية وقتلوه باستخدام مسدس كاتم، ثم اقتحموا مقر السرية وقتلوا جنودها النائمين، أو أن هناك سوء تقدير من آمر السرية الذي تقدم إلى الأمام لمواجهة المجموعة المهاجمة فباغتته من الخلف.
ويكشف الفيديو، الذي صور العملية بالكامل، حجم المقاومة التي أظهرها المقاتلون الأبطال من داخل المقر.
وبخلاف ما ذهب إليه وزير الدفاع، يؤكد الفيديو حدوث معركة طويلة بين جنود السرية الأبطال وعناصر التنظيم حتى لحظة اقتحامهم المقر، ويظهر الفيديو صور جثامين الشهداء متوزعة على مسافات مختلفة تؤكد أنهم سقطوا بعد مواجهة ضارية مع عناصر التنظيم الذين يفوقونهم عدداً، ولم يقتلهم التنظيم في أماكنهم، بقعة الدم التي تغطي مقدمة بسطال الشهيد الملازم ضرغام الكريطي تعني أن الشهيد قاتل عناصر التنظيم وجهاً لوجه، ولم يكن نائماً، كما قال من “أرادوا ذبح العريس مرتين.”
ومن الطبيعي أن مقراً يتعرض إلى هذا الهجوم الكثيف، بعدد أكبر من عناصره، لابد من أن يطلب المساعدة والإمداد، فلماذا لم يصل الإمداد، ومن المسؤول؟ فهل من المعقول أن الضابط والجنود لم ينادوا على إسناد ولم يطلبوا المساعدة؟
لا تحتاج الإجابة على هذا التساؤل إلى جهد، فمن الطبيعي أنهم طلبوا المساعدة والإسناد، وأن المعركة استمرت لمدة طويلة، إلا أن القيادات لم تستجيب، وتركوا الجنود وحدهم يصارعون داخل مقرهم.
ثم هل يعقل أن سرية في وسط منطقة حربية شهدت ثلاثة خروقات أدت إلى استشهاد عدد من الجنود، تعمل فيها سرية مكونة من 12 عنصراً فقط؟ أين عناصر السرية الآخرين الذين يفترض أن لا يقل عددهم عن تسعين عنصراً؟!
يقول وزير الدفاع جمعة عناد: “لدينا تسليح جيد، لدينا طائرات فانتوم يصل عديدها إلى 32 طائرة، وهناك طائرات سمتية ومسيّرة..” ولهذا من البديهي أن يطرح هذا التساؤل: أين هذه الطائرات عن منطقة ينشط فيها التنظيم؟ وإذا لم نجهز الطائرات لهذه الهجمات فما الغاية من وجودها؟
وتظهر العملية أن التنظيم لا يمتلك المبادءة والمباغتة فقط، بل إنه يخطط لعمليات ناجحة، وتكشف أنه يخترق صفوف الجيش، ولديه معلومات عن الأهداف التي يهاجمها، وأن الأمر ليس عملية لعناصر تتربص بالقطعات العسكرية، إنما هناك جهد عملياتي استخباراتي منظم لعناصر لديهم معلومات كاملة ومفصلة عن المكان الذي يهاجمونه.
المعادل الرمزي
بطريقة ما، يكشف مقر الجنود، والساتر ذو الضلع الناقص الذين يحتمون به، وهم يدافعون عن أنفسهم في الصورة المُدمّاة، العلّة، فهذا مربعُ بناء بدائي ينقصهُ ضلعٌ وسقف، هذا يعني أنّه بناء ناقص، وكلُّ بناء ناقص لا يُعوَّلُ عليه.
هذا الشكل المبني من (البلوك) هو المُعادل الرمزي للخطة الأمنية لمواجهة تنظيم “داعش” في عقول القيادات السياسية والعسكرية، فهذا البناء، لا سقف حامياً لهُ، ولا ضلع رابعاً يُكمله، وترى أن الدماء قد أُريقت من ضلعه الناقص ولا يمكن مقارنته بأبراج المراقبة المحصنة لدول لا تمتلك ربع موازنة الجيش العراقي ولا تواجه تنظيمات ارهابية كتلك التي يواجهها.
جنود أم أرقام
بذات الطريقة التي يتحدث بها وزير الدفاع عن الجندي، وأنه مرغم على القتال تحت أي ظرف وبكل إمكانية، وهو يشير إلى أن الجيش في وقت صدام لم يكن يمتلك أسلحة ومعدات، لكنه كان محكوماً بقبضة من حديد تجعل الجندي ملتزماً، متناسياً أن هذا الجيش المليوني تبخر في لحظات عندما اقتحم الأميركان أسوار بغداد.
مرة أخرى يفشلُ المسؤولون العراقيون في النظر إلى الضحايا بوصفهم أعضاء مهمين في عوائل، يفشلون في النظر إليهم بوصفهم كينونات كاملة الآدمية، ومن بين شروط وجود هذه الكينونات، الأبوة، أو البنوة، أو وجود شريك حياتي ينتظر، هؤلاء الجنود هم أرقام، هذه الأرقام لها رواتب شهرية، إذاً فهناك من يساومُ هذه الأرقام على أن تكون في رصيده، فيمنحُ جنوداً متبرعين برواتبهم، لقادة وأمراء وحدات عسكرية، لقاء بقائهم في بيوتهم، إجازات دورية، لذا سيكون هناك نقص في عديد الجنود، تماماً كالضلع الناقص والسقف الناقص في البناء في الصورة المُدمّاة أدناه، ويُعوّضُ النقص من جنود لايتبرعون برواتبهم!
سيُترجم هذا النقص الى أرصدة مالية، في جيوب بعض الضباط الفاسدين، ويُترجم إلى معركةٍ غير متكافئة لجنود قلة يعوضون عن زملاء راشين، فتكون المذبحة، وستكون النتيجة: جنوداً جبناء قاموا برشوة ضباط فاسدين مازالوا أحياء يُرزقون، وجنوداً شجعاناً وأولي مسؤولية لم يرشوا الضباط، قاموا بواجبهم وواجب الآخرين، فخسروا حيواتهم ورواتبهم ولم يربحوا الوطن الذي يتَّم أطفالهم بسببٍ من فسادٍ داخلي يمثلُ الجناج “الوطني: الذي يعمل من داخل المؤسسة” لحساب داعش.
لا تصمد تبريرات وزير الدفاع جمعة عناد، وهو يتلاعب بتسمية الجنود الذين يدفعون نصف مرتباتهم لضباطه الفاسدين، بين مفردة (فضائيين) التي تستفزه فيستبدلها بمصطلح (متفرقة) مادامت النتيجة واحدة، ومادام كل المواطنين يعرفون من أبنائهم الجنود أن هناك من يدفع نصف راتبه، وهناك من يقاتل ويصمد، ويذود عن حمى الوطن ويستشهد، وليس بإمكان أحد أن يقنعنا بأن الأمور تغيرت وأن الجيش أصلح حاله.
أدلة وجواسيس
هناك أدلاء ما زالوا يتعاطفون مع داعش، وحلم الدولة الإسلامية ما زال يداعب مخيالهم، هؤلاء هم سكين في الخاصرة أيضاً، ينبغي أن تعملُ الأجهزة ما يكفي لكشفهم.
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً..
لقد نَفَدَت عُدة العراقيين الأحرار غير الملوثين بمال السلطة وفسادها من الكلام عن الفساد الكثير والمُستحكم وغياب الرأي الحصيف، وثمة صرخة تمزق الأحشاء: كفى فساداً.
تحصين النقاط العسكرية
تخيّل أنَّ لك مقراً للسرية في منطقة تعُد مسرحاً لعمليات العدو، ولا توجد لديك أيٌ من وسائل الحماية، أو على الأقل الدفاع حتى وصول الدعم، بُنى تحتية متهالكة، نقاط حراسة مبنية من البلوك والجص الذي لا يُغني أو يُسمن من جوع، عدد مقاتلي مقر السرية أقل من رُبع العدد النموذجي! عجلات مُنتهية الصلاحية أكل الدهر عليها وشرب، اتصالات غير مؤمنة بشكل كامل، كل هذا وأنت تُريد حفظ الأمن والدفاع عن وحدتك العسكرية على الأقل!
تخيّل أن كل هذا البناء من عمل ضباط وجنود المقر وعلى نفقتهم الشخصية!
إن لم تكُن هنالك حلول فورية وجدية، وليست ترقيعية، سنرى عشرات من هذه الهجمات على جيش كان يفترض أن تتحاشاه عناصر منهزمة، لا أن تقتحم مقراته، ولنتساءل كيف اقتحمت السرية من أطرافها؟ هل فيها متعاطفون مع التنظيم؟ او فيها من اشتراه التنظيم؟ بالإضافة إلى محاسبة الفاسدين الذين لا تهمهم حياة المقاتل.
موازنة الأجهزة
الجيش الذي يحتمي بمربع ناقص مبني بجهد ذاتي للجنود في جيش تبلغ موازنته ١٩ مليار دولار، وهو رقم كبير، يشير إلى أن المأساة عظيمة وأن الفساد يهدد البلاد، وأن 90 بالمئة من هذه الموازنة هي رواتب الأفراد الذين يبلغ عديدهم المليون عنصر، وكأن الجيش مؤسسة غايتها الرئيسة امتصاص البطالة وبناء دولة الموظفين (ذات الولاءات)، أضف إليها الفساد، فيصبح الجندي (الذي هو في الخطوط الأمامية) لا يمتلك أقل مقومات الدفاع عن نفسه، ولهذا لا عجب أن تكون النتائج بحجم حادثة العظيم.
العمل الأخطر
قتل الجنود العراقيين في منطقة (الطالعة) -ناحية العظيم- لم يكن العمل الإرهابي الأول ولن يكون الأخير ..
لكنه الأخطر كونه جاء في توقيت حساس.
أثبت هذا العمل الإرهابي أن المبادءة بيد الزمر الإرهابية، فهي قادرة على التحرك والانسحاب والتخفي متى ما تشاء، كما كشفت الجريمة أن هناك حواضن للجماعات الإرهابية مازالت موجودة، هناك خلل في المعلومات واختراق للجيش الذي ينبغي أن لا يكون فيه مكان للمتعاطفين مع التنظيم الإرهابي.
خطورة هذه الجريمة
ويمكن لأي متابع لنشاط الجماعات الإرهابية منذ 2003 لغاية تحرير الموصل ومدن العراق الأخرى، أن يدرك أن العمليات الإرهابية لا تشن بصورة عبثية أو عشوائية، ولا حتى انتقامية! إنما تشن بفعل دوافع ومناهج مخطط لها بعناية، وربما تكون مقدمات لمراحل أخطر.. فهذه الجريمة تصنف وفق المفهوم الداعشي بعنوان (قتال النكاية) الذي يسبق (قتال التمكين)، والأهم هو توفر الدعم والرعاية الخارجية والحواضن الداخلية.
إن نجاح العصابات المجرمة باختراق الحواجز النفسية والمعنوية واختيار وتحديد الهدف وقتل الجنود العراقيين، وهم أثناء الواجب، بهذه البساطة، رسالة يجب التعامل معها بفهم عميق لمخاطرها وتداعياتها، فالتنظيم كان بإمكانه اختيار أهداف أخرى أكثر سهولة لو كان يهدف إلى إثبات وجوده، كما يحاول أن يصور وزير الدفاع وبعض من قادة الأجهزة الأمنية.
ردود الفعل
لم تقدم ردود الأفعال الحكومية والمواقف والبيانات حقيقة ما حدث أمام الناس، ولم تعترف بتقصير، او تحدد نقطة خلل.
لكن على المستوى الشعبي، وبشكل عفوي، كشف الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي هزالة البنية التحتية الدفاعية، وانتشرت صور صادمة لحائط بدائي من (البلوك) يستتر به الجنود، وجرت مقارنته مع أبراج المراقبة في أفقر وأضعف الدول العربية.
بعض التحليلات الأكثر تخصصية طعنت في الستراتيجية الأمنية العراقية وبينت ثغراتها، على اعتبار أن العراق هو الخط الأول للمواجهة مع عصابات داعش، ومن المؤسف أن هناك مقطعاً انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي يظهر الأهالي وهم يتسلمون جثامين أبنائهم بطريقة تضاعف من حجم الألم والمأساة.. ويؤشر إلى غياب الإدارة العسكرية وإدارة المخاطر بشكل كامل.
وإذا كانت الجريمة صادمة والرصاصات غادرة، لكن الدرس مفيد فقط لمن يعي ويتعلم ويتعظ، وأن الوقت لا يسمح بمزيد من التراخي، ومن يظن أن الحل يكمن بردة فعل فهو واهم، لقد حان وقت التخطيط والتنفيذ لبناء مؤسسة عسكرية قوية، لكن.. ينبغي تخليصها من الفاسدين أولاً.