الأطبّاء في العراق: قصة كفاح شبه أعزل في محاربة كورونا

#خليك_بالبيت

آية منصور/

سَحَبَ فيروس كورونا المستجَد العالمَ من ياقته بلحظة صغيرة، وأدخله في إنذار يعد الأكبر في التاريخ. هذا الإنذار الضخم جعل البشرية تلتزم منازلها طواعية أو إجباراً بعد فرض الحكومات حظراً شاملاً أو جزئياً على التجوال، لكن تبقى الفئة الوحيدة التي تقاوم اليوم بسلاح العلم هم الأطبّاء. ومع التطور الطبي، يواجه الأطبّاء اليوم عجزاً كبيراً في التصدي لهذا الفيروس الذي يكاد لا يُرى حتى بالمجهر الضوئي، فكيف إذن بالأطبّاء العراقيين الذين يواجهونه بأبسط المستلزمات الطبية وبأقل عدد من المستشفيات؟ إنه اختبار صعب يواجهه الطبيب العراقي كل يوم، بكفاح وصمود كبيرين.

المَشافي تنتظر المستلزمات الوقائية
الطبيب المقيم الأقدم سلوان خميس، الذي يعمل في مشفى الكاظمية، يؤكد الصعوبات “الفظيعة”، حسب قوله، التي تواجهها الملاكات الطبية بصمود وحذر، وباعتماد كلي على الذات، في حين تفتقد المستشفيات لأبسط الوسائل الوقائية وفي جميع المستشفيات عموماً، مثل الكمّامات والكفوف، أو حتى الزي الوقائي الخاص بتجنب فيروس كوفيد 19، رغم مداهمته السريعة والخطرة للغاية، إلا أن المشافي، وحتى الصغيرة منها، فيها ملاكات طبية بأعداد هائلة، يقول:
– فجأة بدأ الموضوع يتطور بسرعة قياسية، وفي العراق نعاني من قلة المستلزمات، أصبحنا نشتري المواد الوقائية بأنفسنا، ويمكنك تخيل هذا الأمر، لأن الوزارة لا تستطيع توفير كل شيء للجميع.
أمر غير طبيعي أن يشتري الأطبّاء مستلزماتهم الوقائية بأموالهم الخاصة، رغم مطالباتهم المستمرة إلا أن الوزارة غير قادرة على التجهيز الكلي، كما يرى الدكتور سلوان الذي يخبرنا أيضاً أن لديهم مطالبَ مستمرة بإنشاء او تهيئة مستشفيات خاصة للعزل الصحي، واستقبال الحالات المشتبه بها، إذ يضطر الأطبّاء اليوم، وفي جميع المشافي العامة، إلى استقبال الحالات الحرجة في ردهات الطوارئ ومع المرضى الآخرين:
– ما يحصل بحقنا وبحق المرضى الآخرين كارثي، إذ أن الأطبّاء على تماس مباشر معهم بمستلزمات وقائية بسيطة، وجهاز الكشف الخاص بفيروس كورونا غير متوفر في جميع المستشفيات، فالمستشفيات التي لا يتوفر فيها تعتمد الأجهزة الطبية المتوفرة لإجراء التحليلات الخاصة بالدم أو الأشعة، ويبقى المشتبه به مع المرضى والأطبّاء!

الفرات وابن الخطيب، للكورونا فقط
في بغداد، ثمة مستشفيان خاصان بالعزل فقط، وهما الفرات في جانب الكرخ، وابن الخطيب في جانب الرصافة، حيث يتم عزل المؤكدة إصابتهم بفيروس كورونا، وهاذان المستشفيان غير كافيين، حسبما يصرح الدكتور سلوان خميس:
– لدرء الكارثة التي قد تحصل، يجب تفريغ بعض المستشفيات وجعلها خاصة بالحالات المشتبه بها، بكامل أجهزتها وطوارئها وحتى حماماتها، ولا سيما لمن يحمل أعراض المرض لئلا يختلط بالمرضى الاعتياديين.

– إحدى المشكلات التي يعاني منها أطباؤنا اليوم في مواجهة كوفيد 19 هي قلة مختبرات الصحة العامة في بغداد والمحافظات، وقلة أجهزة التشخيص، ثم إن المحافظات جميعاً ترسل عيناتها إلى هذا المكان فتتأخر نتيجة التحاليل، ما يسبب إشكالاً للأطبّاء والمرضى.

الحجر يمنع المساعدة
زينب علي مجيد، الطبيبة المقيمة في مشفى البصرة التعليمي، والذي تحول مؤخراً إلى مشفى خاص بالعزل، تفاجئنا وتدهشنا بإنسانيتها، إذ تتحدث عن حزنها الشديد لتركها المشفى إجباراً، بعد ظهور نتائج فحص إيجابي بإصابة إحدى زميلاتهم الطبيبات بالكورونا. زينب التي تعيش اليوم حجراً منزلياً لمدة 15 يوماً، تؤكد أن ما يقلقها هو الخوف من فقدان الكادر الطبي وزجِّهم جميعاً في الحجر، في الوقت الذي يجب أن يكونوا متاحين طوال الوقت لمساعدة المرضى ومعالجتهم:
– جميع من كان على تماس مباشر مع الطبيبة يعيش اليوم حجراً إجبارياً، وأمامنا 15 يوماً، فإما العودة لمساعدة المرضى، أو أن نعود نحن مرضى!

وترى زينب أن الضغوط التي يعاني منها الأطبّاء تتبدد بشكل مستمر، وتعزو ذلك إلى روح التعاون التي تجمع بينهم وللعمل الجماعي والروح الواحدة، إذ أن أغلبهم لم يروا عائلاتهم منذ أسابيع ولم يفكروا بمغادرة المستشفى لأي سبب، من أجل مساعدة أكبر عدد ممكن من المصابين:
– ليس هنالك أي تذمر من أحد، الجميع يؤدي واجبه على أتم وجه، رغم الخطر.
وتتمنى زينب، وبعد نهاية أسبوعَي الحجر، أن تكون النتائج سلبية لتتمكن من العودة إلى المستشفى لخدمة المرضى.

سيراً على الأقدام
الحديث عن معاناة الأطبّاء الشخصية بمواجهة هذا المرض يبدأ من أبسط الأمور، فعلى سبيل المثال يتوجه الدكتور سلوان خميس كل يوم مشياً على الأقدام من منزله حتى مستشفى الكاظمية، وذلك بسبب حظر التجوال المفروض وعدم توفر سيارات الأجرة:
– حينما أصل إلى منطقة الكاظمية بعد مشي أكثر من ساعة، أستقل سيارات النجدة أو الشرطة الاتحادية، وهم يوصلونني بدورهم إلى المستشفى.

تأجيل الأمراض الأخرى
يبدأ بتعقيم مكانه، وارتداء الملابس الواقية وتهيئة نفسه لاستقبال أنواع عدة من الحالات، فيضطر العديد من الأطبّاء اليوم، حرصاً على سلامة مرضى الأمراض الأخرى، لتأجيل علاجات بعضهم وتقليل الزخم داخل الردهات وعدم تكديسهم من أجل الحفاظ على سلامتهم:
– صرنا نؤجل مواعيد بعض المرضى ونقسمهم بغية عدم زجّهم جميعاً في مكان واحد وزمان واحد، ولا سيما كبار السن، بسبب قلة مناعتهم وخوفنا من انتقال الأمراض إليهم وحذرنا الشديد عليهم، صرنا نقسم مواعيد حضورهم تباعاً، لقد بات الطبيب العراقي يخترع الكثير من الأمور من أجل تقليل الخسائر.

ليس قاتلاً ولكن..
ويؤكد الدكتور سلوان أن هذا المرض ليس بقاتل، إذ تماثلت العديد من الحالات للشفاء، لكن يا للأسف كانت أغلب حالات الوفيات أو جميعها لكبار السن، ولهذا يطالب أطباؤنا المواطنين جميعاً بالتزام منازلهم لأجلهم ولأجل أهاليهم من الكبار بالسن.
– بعض الناس لا يتصرفون بمسؤولية ويبررون خروجهم المستمر بذرائع غير مقنعة، وأنا اؤكد أن الفيروس ينتقل عن طريق الأشخاص والاحتكاك، لذا فإن أفضل طريقة لحماية الجميع هي الحجر المنزلي.

العلاج مستمر

فيما ترى الطبيبة (ع، م) أن العراق يعتمد في علاجه على البروتوكولات العالمية الموصى بها من قبل وزارة الصحة، إذ تماثلت للشفاء أكثر من 122 حالة من مجموع 458 إصابة، وثمة ما يقرب من 50 وفاة، إذ يعتمد الأطبّاء وصف العديد من العقاقير، ومنها المضادات المناعية وفيتامين سي وعناصر الزنك والسوائل والمحاليل للمحافظة على حرارة الجسم ومنع حدوث الجفاف، ويحدث هذا بصورة مستمرة وبمراقبة وعناية شديدتين، كما قد نستعمل الهايدروكلوركلين، وهو مضاد حيوي لمعالجة مضاعفات ذات الرئة وهو يسهم بمساعدة الحالات جميعها، لكن نُحذر الجميع من شراء هذه المادة واستخدامها بدون وصفة:
– بعد انتشار خبر اعتماد فرنسا لهذا العقار كعلاج، ظهر من يحثّ الناس على شرائه، وأنا أرجو الجميع ألّا يقدموا على ذلك، بسبب تسمم بعض الحالات وعدم تحملها لهذا العلاج ظناَ منهم أنه سيعمل على تحصينهم من كوفيد 19، لكن الدواء يحمل مضاعفات خطيرة قد تؤثر على الشخص السليم وعلى قلبه.

مشتبه بإصابتهم يهربون!!

وتؤكد الطبيبة (ع، م)، التي تحرص على مراعاة الحالات المشتبه بها جميعاً بعناية وحرص كبيرين في مستشفى الصدر العام، أن الأطبّاء في العراق يعملون بكل ما يملكون من جهود على استقبال المرضى أو إجراء الفحوصات، لكن المشكلة الكبيرة ستكون إذا ما تفاقمت الحالات:
– لا يوجد أكثر من 300 سرير للإنعاش الرئوي في العراق، وتكلفته غالية، وإذا ما تزايدت الحالات فما الحل؟

كما تخبرنا أن بعض الحالات المشابهة لأعراض كورونا يهرب أصحابها إذا ما ظهرت نتائج التحاليل، ما يسبب قلقاً وفزعاً لدى الأطبّاء الذي يجاهدون كل يوم للوصول إلى أماكنهم من أجل إنقاذ الآخرين.
تقليل الضغوط
اما الطبيبة تبارك أيسر، العاملة في مستشفى النعمان، فتعاني بشدة من صعوبات الطريق، والضغوطات التي يصادفها الأطباء للوصول إلى أماكن عملهم في ظل حظر التجوال، إذ أن كل الطرق مغلقة أمامهم، وبعض أفراد القوات الأمنية يتشددون في منع مرورهم رغم حملهم الهويات التي تخولهم حرية الحركة والوصل إلى أماكن عملهم.
– اضطر أحياناً للتوجه إلى المستشفى سيراً على الأقدام رغم إصابتي ومعاناتي من بداية الانزلاق، وإذا ما تمكنت أنا من الوصول، فإن بعض زملائي لا يستطيعون الحضور بسبب تلك الإجراءات.

حكاية طبيب عراقي
وفي قصة وموقف يحسبان للإنسانية من الطبيب العراقي، أكدت رئيسة الأطبّاء في مستشفى الكِندي، الدكتورة أسيل الخيّون، أنها حاولت قدر الإمكان الترتيب لتفعيل الإجازات للأطبّاء المصابين بالربو، لكنها فوجئَت باتصال من أحد الأطبّاء المصابين بالربو وهو يرفض الإجازة رفضاً قاطعاً، وإصراره على مواصلة الدوام ومساعدة المرضى.
حسناً، لأجل تضحيات جنود الطب والعلم، لنبقَ في منازلنا.

النسخة الألكترونية من العدد  357 

“أون لآين -2-”