ليان قدسي: عملت في مهن لايمكن تخيلها!

آية منصور/

حتى قبل أن تكمل دراستها الجامعية وجدت ليان نفسها محاطة بالمشكلات التي تعصف بها وبمستقبل عائلتها، فبعد إصابة والدتها بالسرطان تحملت المسؤولية مبكراً وإنخرطت في أكثـر من عمل، وتنقلت في أكثـر من بلد. وفي الجزائر فاض بها الحنين وشعرت بالغربة الحقيقية تحاصرها فعادت على أجنحة الشوق الى بغداد.
هنا نمت ليان كزهرة وسط حقول اليأس التي تحيط بها، لتصنع من المعاناة قصة كفاح ونجاح توجتها بأعمال لمساعدة المحتاجين من خلال مؤسستها الانسانية ومازالت تمضي بخطواتها الواثقة في هذه الدروب.

حلم في أوله

درست ليان علوم الليزر في جامعة بغداد، وبسبب الاحداث والظروف التي كانت تحرق كل من يقترب منها آنذاك، اضطرت وعائلتها للسفر الى سوريا حيث كلف الدراسة كانت مرتفعة جدا، ولم تكن تملك مايكفي من المال لتغطيتها، فاضطرت الى تركها، اصيبت والدتها بمرض السرطان، واصبحت المعيل الوحيد، فعملت في محل لبيع ملابس الأطفال براتب يبلغ 100 دولار في الشهر، وبعمل اكثر من 16 ساعة بشكل يومي ومتواصل. في الوقت ذاته بدأت دراسة اللغة الانكليزية ودخلت دورة لتعليم الكومبيوتر وحصلت على شهادتين تيقنت “انهما ولو –بصورة مؤقتة- كانتا عوضاً عن تركي جامعتي.”

غربة

اضطرتها الظروف الذهاب الى الجزائر من اجل الدراسة والعمل واعالة عائلتها. عادت والدتها الى العراق، لتجد ليان الغربة الحقيقية وهي تحاصرها من جميع الاتجاهات.

“لم ادرك معنى الألم والغربة إلا وأنا وحيدة في الجزائر، سكنت مع عمي ودرست هندسة الاتصالات، لكن الحياة كانت تضيق بي وانا أعلم ان والدتي مريضة وتحتاجني، عدت اليها، واكملت دراستي بشروط من الجامعة نفسها، في الوقت نفسه اخبرني الطبيب ان والدتي على وشك الموت خلال اشهر قليلة، وهذا ما حدث بعد نجاحي الى المرحلة الثالثة، توفيت والدتي، ولم اعلم ما علي فعله حينها، احساس كامل بالعجز.”

الغربة الجديدة

هنا، بدأت ليان مرحلة جديدة كلياً، كيف تصبح أماً وأباً، أختاً، ومصدراً للرزق في عائلة مكونة من اربعة اشخاص، لتكمل الوقوف على قدميها، والسير نحو اعالة نفسها واخوتها دونما شعور باليأس. استطاعت ليان اعادة فتح مختبر والدتها الطبي من أجل توفير بعض المبالغ المالية، كما عملت بالتدريس الخصوصي لعدة مواد دراسية لتوفير اقساط اختها.

“عملت لصالح أكثر من جهة ومكان في آن واحد من اجل توفير اقساط اختي ومتطلبات الحياة كذلك، من خلال الجمعيات الشهرية، مساعدة الأصدقاء كانت عونا لي، تخرجت بعد معاناة حرفية، وبعدها، بدأ التضييق ينادي ايامي الجديدة.”

عند تخرج ليان، اجبرها اقاربها على ملازمة المنزل وترك العمل، الشيء الذي لم تتوقعه يوما ليان، التصرف الذي زج بها للعيش عند قريبة لها لم ترها طوال حياتها، لأكثر من سنة ونصف، فقط من أجل اكمال حياتها التي تريد لها.

عملت في عدد من المهن التي لا يمكن تخيلها، شركة معارض، شركة للأجهزة الطبية، ثم في شركة كورك للاتصالات، كي ترسل المال لإخوتها ولكنها لا تستطيع العودة لئلا يعود ضغط اقاربها من جديد لمنعها من من العمل.

لا تذكر ليان من دفتر مذكراتها الذي ضاع في الجزائر، سوى عبارة واحدة ملتصقة برأسها مذ سنين، وهي “ارغب في العودة الى العراق والعمل لأجله”، وساهم عملها في بغداد بالتفرغ احيانا للذهاب كمترجمة عند احدى المنظمات التطوعية، ما جعلها ترى وبوضوح الوجه الآخر من المدينة، ذلك الوجه الذي محا عنها جمع ما صادف حياتها، بحياة أخرى.

بناة العراق

بدأت ليان مع فريق تطوعي اصبح اليوم من اهم الفرق التطوعية وهو “بناة العراق” بعدة افراد لا أكثر، يتناوبون على جمع التبرعات من اجل اعانة الآخرين، ثم المرحلة الفعلية وهي ترميم الخراب الذي يحيط بهم، من خلال بناء المنازل للناس المعدمين، يقصدون منازل الأيتام والأرامل، او من يكون رب منزل غير قادر على العمل، مشلول او كبير في السن. نشاهد ليان وهي تساعد زملاءها في حمل الطابوق واداوات البناء فيما تعلو الابتسامة شفتيها رغم كل شيء.

تعلمت البناء عن طريق معاونة زملائها الرجال، لكل شخص عمله الخاص، بعضهم يساعد في رفع الحديد، الكهربائيات او الصحيات، البناء او حمل الأنقاض، بعضهم كان يأتي من العمل مباشرة وآخرون يتوجهون الى اعمالهم، مثل الاطباء، تقول: كنا خمسة اشخاص، اصبحنا اليوم 400 موزعين بين جميع المحافظات.

تخبرني ليان ان ما شاهدته جعلعها تشعر وكأن جميع مشاكلنا الحياتية تافهة وسطحية مقارنة بما يحدث للعالم الاخر، ومن يقول ان هنالك اشخاصا يموتون من الجوع، فهذا يحدث بصورة حقيقية في اغنى بلاد الارض.
الدعاء كان موحدا من جميع العوائل، جميعهم يخبروننا نفس العبارات: لقد انقذتمونا من حرارة الشمس ومطر الشتاء، احدى العوائل كانت تخبئ ابناءها داخل دولاب من المطر، احدهم باع ابنه لفقره الشديد، وآخر أجبر ابنه على ترك الدراسة والعمل، قصص كثيرة لا أنساها!

تذكر لي ليان عدة قصص شاهدتها، متأثرة وهي تتحدث عنهم بشوق، اذ تؤكد رؤيتها لامرأة تقوم بطهو “الشعيرية” وتخفف الطعام بالمياه، من اجل اشباع اولادها.

“ما افرحني يوما، ان طفلا أجبر على ترك دراسته، قمنا ببناء محل له قرب منزله الذي كان وسط مستنقع، فتمكن من العودة الى دراسته، هنالك رجل مسن آخر، صار يتصل بنا كلما يشغل التكييف، يعيش في منزل من الحديد والصفيح والحرارة عالية في منزله، معذور! من اين يأتي الهواء! صار يتصل بنا ويقول، كلما اشعر بالهواء البارد في منزلي، اتذكركم وادعو لكم!”

درج

يتراود كثيرا في بالي وانا اقابل ليان، سؤالها عن معنى درج، مشروعها الجديد والصغير والجميل جدا، فتبتسم قائلة لي:

“لقد اخذت عهدا على نفسي الا ان اتجاوز الثلاثين دون مشروع خاص بي!، بحثت في رأسي كثيرا كثيرا، ثم قررت ذلك القرار، مكتبة لبيع الكتب، جيلنا بحاجة ملحة للكتاب والتثيقف، كما أني اهوى قراءة الكتب كثيرا، (درج) ستكون في جميع المحافظات العراقية، وعنوان مكتبتي التي لها فروع خمسة لحد الان في العراق، السير نحو الأعلى من خلال الكتب، احب كوني متطوعة، كما واحب كوني صاحبة مكتبة لها فروع في جميع المحافظات مستقبلا.”