أيّ تلازم بين المرض وعبقرية الكتابة ؟

كاظم حسوني/

نظرة فاحصة على حياة لفيف من الأدباء والمفكرين، تكشف لنا أن المرض يزيد الموهبة وثوقاً وتمكناً، فتتناسق الكلمات مثل الميكروبات وسط آلام القرحة والصرع والاختناق ونفاث الدم، وقد دلت الكشوفات الطبية على أن كثيراً من الكتاب الموهوبين الذين احدثوا قفزات في مسيرة التاريخ الأدبي، وتركوا بصمات واضحة على صفحات الإبداع الفني، كانوا يعانون من مرض ما، وموباسان، وجيرار نرفال كان مجنوناً،فتوماس مان وفرانز كافكا كانا مصابين بمرض السل، ونيتشه كان يعاني من مرض الزهري، وكذلك جول غنوكور ديستويفسكي كان مصاباً بالصرع، أما مارسيل بروست فقد كان موبوءاً يكتب مثلما يتنفس ويجعل فواصل جمله على قدر حشرجته، وأسماء هؤلاء المشاهير للذكر لا للحصر، فالقائمة طويلة وتشمل آداب الأمم على مختلف الحقب، ولنا في الشابي والسياب من الأدب العربي المعاصر أقرب مثال.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد الاطلاع على نماذج من العباقرة المرضى: هل يخلق المرض الموهبة أم أن النبوغ هو الذي يسبب المرض؟

بحثاً عن زمن ضائع

مما لاشك فيه أن حرفة الأدب والانشغال بالإبداع عموماً يولدان المتاعب والأوجاع ويدخلان اضطراباً على نسق الحياة العادي، ولكن قد تكون الموهبة مقرونة بالمرض كما قال أحد النقاد الفرنسيين، وقد كان بروست يختنق بالربو، ولقد فاجأته أول أزمة اختناق عام 1880 وهو لم يتجاوز بعد عامه التاسع حين كان عائداً من فسحة عائلية، ولم يستطع الأطباء في ذلك الوقت أن يخففوا من آلامه مما اضطره إلى محاولة صيانة نفسه بنفسه وقد كتب يقول: “أنا في أزمة ربو حادة، صوت حشرجاتي يغطي صوت قلمي، وحتى صوت شخص يستحم في الطابق العلوي. هذه الأزمات اليومية لا تنتهي إلا عند المساء، في هذا الموسم وسط سحابة من الدخان حيث لا سمة تبدده أنت ترفض أن تدخل حيث هي أقسم لك أنك لن تكون فيها إلا دموعاً وسعالاً، وأنا الذي لا يمكن أن يدنو من زهرة دون أن يقع في الحال تحت سيل من العطاس.
بقي أن نعرف إن كانت أعماله ناتجة عن الربو أم لا؟ يجيب طبيب يدعى ريغان في دراسة أعدها عام 1945: بالنسبة إلى إنسان عادي فأن الورد هو الورد، أما بالنسبة إلى بروست فأن الورد ليس إلا أزمة ربو خانقة، ذلك أن أية رائحة أو أي تيار هوائي أو أية هبة ريح هي بالنسبة له انذار بـآلام مبرحة وفي الوقت نفسه نقطة انطلاق للبحث عن زمن ضائع إلى الأبد، زمن الطفولة الأولى حينما كان بوسعه أن يقترب من الأزهار والثمار والأغصان والفساتين دونما خوف، حينما كانت الإحساسات في متناوله دونما خشية.

دوستوفيسكي

أما فلوبير فقد كان مصاباً بالصرع، وكذلك فان كوخ، وبرغم ذلك لم يجرؤ أحد من الدراسين فيعزو نبوغهم إلى المرض، ولكن الأمر يختلف مع دستويفسكي، إذ لم يتردد كثير منهم في جعل المرض سبباً أساسياً في نبوغه وشهرته، وصارت صفة دوستويفسكي مرجعاً يميل إلى الصراخ الهستيري وميل أبطاله إلى استخدام السكاكين والفؤوس. ورسم صور المجانين والشبقيين الذين يغتصبون فتيات صغيرات. ولعل أخطر ما وجه إلى دستويفسكي ما نشره عام 1913 ستراخوف وهو أحد المهتمين بتدوين سيرة دستويفسكي فقد كتب: “حدثني فيسكوفاتوف أنه يقصد دوستويفسكي “تباهى باغتصابه في حمام عام بنتاً صغيرة قدمتها له مربيتها، ومن هنا صار الناس يعتقدون أن الشبقيين هواة اللحم الطري ومغتصبي البنات أمثال ستافروغين وسفيد ريغالوف وغيرهما ليسوا إلا الكاتب نفسه. لقد كان شخوص دوستويفسكي ينفثون الدم ينفصمون، يموتون مجانين خاصة في أعماله الأولى يعانون من الكبت الجنسي، ودوستوفسكي نفسه مات في الستين بمرض نفث الدم الناتج دون شك عن السلّ.

كافكا.. مرض مزدوج

وبالنسبة لكافكا الذي كان يعاني من نزلة رئوية حادة فقد كان يبصق بقع الدم في الليل وشعر أن حياته قصيرة بعد تشخيص مرض السل الرئوي الذي أصاب رئتيه الاثنتين، كان عمره في ذلك الوقت 34 عاماً ولكن يعزو إصابته لمرضه المعنوي، فقد كان يؤمن بأن سنوات التوتر والأرق المستمر التي عاشها هي السبب وراء إصابته بالسلّ، ومن هنا كانت غربته في الاعتزال والسفر والراحة، وهنا بدا له مرضه مزدوجاً فهو من ناحيته إعلان بأن ما تبقى لديه من العيش قليل، ومن ناحية أخرى ينبغي عليه أن يتمتع بنوع من الحرية لينصرف كلياً إلى الأدب، ومن أجل الكتابة كان يمضي الليل مرهقاً بسبب الحمى وأوجاع الرأس التي لا تنتهي إلى أن استولى على روحه المرض الأول مرض الكتابة فأتى على جسده بالكامل.