علي لفتة سعيد
لا تبدو الهندسة المعمارية أو العمرانية، الآن، في محك حقيقي مع تطور العقل البشري، وكذلك التطور التقني الذي يعطي الهندسة أفقها ومعالمها وتواريخها وحججها وحجمها وتوازنها، لكن الهندسة تلك كانت في أيام البابليين وكأنهم أوقفوا الزمن ليربطوه بهندسة تحيل إلى أن العقل البابلي كان مميزاً، على الرغم من عدم وجود كل هذه التقنيات التي تساعد وتعاون المهندس في معرفة حتى خفايا الزوايا.
البابليون، كما يقول الخبير والمختص بالآثار الدكتور عدنان المسعودي، (فرملوا) سيولة الزمان، وتشتيت تياره بحيلٍ عمرانية وهندسية رائعة، حين قطّعوا أوصال الزمان بسلاسل الردهات، وتناوب الأروقة، وتعارض الاتجاهات، وتداخل الفضاءات، وضيّقوا فسح الغرف، واطالوا الممرات، وقوّسوا الخطوط، وحنوا المظال، ونحتوا الروازين، وعزلوا بين الحجرات بكثافة الطين، وصنعوا لكل بيت زمنه الخاص، وعزلته الخاصة، ثم دعوا الروح أن تنزله، فنزلته مرغمة.
تعقيدات البناء
يقول المسعودي إن البيت البابلي أكثر تعقيداً بما لا يقاس من أي بيت معاصر نشهده اليوم، فهو يتألف من جدران غليظة، بسمك متر واحد على الأقل، يبنى بمصفوفات عقدية من اللِّبن الممزوج بالتبن (حطام السنابل وسيقان الحنطة)، ويجفف بحرارة الشمس. وجميع الجدران (مملّطة) بمزيج الطين والتبن، وأرضيات البيت (مسيّحة) بالآجر المفخور، ومسقفاته مدعّمة بمصفوفات من خشب الصفصاف (يمتاز الصفصاف بالقوة وخفة الوزن). تشد أواصر مصفوفات الصفصاف بحُصر القصب، ثم تفرش بالتراب، وأخيراً تُسيح بالآجر، وتملّط بالقير.
ويشير إلى أن جدران البيت الخارجية تتألف من صفائح متناوبة في التغوّر والبروز. والصفائح البارزة في الجدار تلعب وظيفة الأبراج الداعمة أو الساندة. وتتوسط كتلة البيت البابلي باحة فضائية مربعة الأضلاع، كبيرة نسبياً، تسمح لأشعة الشمس أن تضيء البيت من الداخل، وتضمن تهوية الحجرات دون الحاجة إلى الشبابيك، وتحيط بباحة الدار الرئيسة الأروقة من جهاتها الأربع. ويمضي بقوله في وصف رواق البيت البابلي، إنه يتقدم الحجرات الداخلية، فيمنحها ظلاً ظليلاً في الصيف، ويزودها بمناسيب ملائمة من التهوية، وحزام الحجرات الداخلية يمثل نُزل العائلة في أشهر الصيف الحارة، حيث تقع بعيداً عن وهج الشمس تحت ظلال الأروقة. ويحيط بحزام الحجرات الصيفية حزام آخر من الحجرات التي تطل على الجدران الخارجية، وهذا الحزام يمثل نُزل العائلة في أشهر الشتاء الباردة، حيث تنفذ أشعة الشمس إليها عبر فتحات أو كوّات تدفئة في عوالي الحجرات، وتحفظ الجدران الغليظة المقدودة من اللبن حرارة ذلك الحزام، عند درجات التدفئة الملائمة.
وصف الحجرات
لكل زمان خريطة بناء، لكن خريطة البيت البابلي كانت تعتمد على شكل الحجرات، فهي المسكن والمبيت والراحة ولمّ شمل العائلة. يقول المسعودي إن حجرات البيت البابلي صغيرة نسبياً، لا يتجاوز عرضها المترين ونصف المتر تقريباً، وطولها يتراوح بين ثلاثة إلى أربعة أمتار، وهي خالية من النوافذ والفتحات، باستثناء حجرات الحزام الشتوي، فإنّ لها في الكثير من الأحيان كوىً علوية.
يزيد بقوله إن البيت البابلي يمتاز كذلك بكثرة الغرف والردهات، وتتقاطع فيه الجدران بشبكات معقّدة من الأروقة والدهاليز، كما أن في البيت غرفاً أخرى، منها غرفة العبادة، أو غرفة القُداس: التي تمتاز بكونها مزادة بمنصة الإله – الصنم، وتقع في القسم المتجه صوب النجم الشمالي، الجدي (النجم القطبي)، في الضلع الشمالي من البيت. وفي أعلى الجدار كوّة مستطالة ذات انحناء قوسي تسمح للمتعبد في خلوته أن يتنفس نسمات الليل. ويشير إلى أن البابليين يتوجهون في قبلتهم إلى الشمال، صوبَ الجدي، لعلّةٍ ما.
مكملات البيت
البيت البابلي لا يقف عند وجود الغرف وأماكن العبادة والردهات الأخرى وحتى الكوى العلوية.. فهو (حسب قول المسعودي) يحوي باحة وسطية تمثل نشاط العائلة طيلة أشهر السنة، ففي الصيف تستوعب سمر العائلة في الليالي المقمرة، وفي الشتاء تبسط العائلة فرشها تحت شمس الشتاء المنعشة. كما أن البابليين اعتادوا أن يحفروا في بيوتهم أو خارجها آباراً مشيّدة بالآجر، وربما (كما يشير المسعودي) أنهم كانوا يعتقدون أن مياهها مقدسة. ولا يقف البيت عند هذه الحدود، فله غرف خاصة بالاستحمام، و(مناجٍ) خاصة بالاستفراغ، ترتبط بشبكات مجارٍ فخارية تنغرس في أعماق الأرض، لتصريف المياه والفضلات، فيما تطل مطابخ البابليين -كما يصفها المسعودي- على فضاء الباحة الداخلية، حيث تتوافر أشعة الشمس، وتتزود بالهواء النقي. وعادة ما تقع الغرف الخاصة بالضيوف عند مداخل البيوت، يكون الدخول إليها عبر بوابة صغيرة، أو ردهة ثانوية.
عن كيفية اتصال هذه الغرف يقول المسعودي: إن حجرات البيت البابلي يتصل بعضها ببعض بواسطة البوابات ذات العقود المنحنية، وبعض الحجرات تنفتح على بوابتين متناظرتين، وهي بمثابة ردهة، أو حلقة اتصال. وهو ما يشكل هندسة معمارية تلائم البيئة التي يعيش فيها الفرد البابلي.
نظام معبدي
للبيت البابلي مواصفات أخرى توحي بأنه ليس بيتاً للسكن فحسب، بل إن الفرد حين يدخل بيته تكاد تنقطع صلته بالعالم الخارجي. ويرجع المسعودي أسباب ذلك إلى أن شبكة الجدار المتداخلة، ونظام الردهات، والأروقة وحجرات الأحزمة، تمنح المستوطن عزلة وقطيعة شبه كاملة، وحين يستقر في حجرته المخصصة يسود السكون، ويطبق الهدوء، وتضرب عليه الجدران الغليظة عزلة فوق عزلة، حتى داخل البيت، فإنه لا يسمع حسيساً، إذ إن الصوت يتيه بين الردهات، وتمتصه نافذية اللّبن. مشيراً إلى أن الأصل في البيت البابلي، نظام معبدي مخصص للمناجاة والتأمل قبل أن تتطور وظيفته إلى نزل للعائلة. وحسب منطق الأساطير السومرية القديمة، فإن أول من ضرب على نفسه بيتاً للعزلة هو ألوليم (آدم) ليعلن فيه توبته وندمه بعد أيام من خروجه من الجنة، وكان ذلك أول بيت استنهُ السومريون (أسلاف البابليين) في أول قرية نزلها الإنسان، أريدو (أريضو = الأرض) على ساحل البحر الأسفل (الخليج العربي).