الثقافة العراقية.. بين الجوهر والعرضي

طالب عبد العزيز/

أكاد أجزم بأن الثقافة العراقية تنفرد بجملة أزمات، تختلف عن التي في بلدان عربية أخرى، بما فيها مصر وسوريا ولبنان ودول المغرب العربي، هناك أزمة من نوع خاص، لازمت ثقافتنا وحالت دون فاعليتها، والأزمة هنا، ليست بمعنى نكوصها في الجدّة والمعاصرة والتساوق مع ثقافات الأمم الأخرى، إنما بمعنى عزلتها عن واقعها وعدم انسجامها مع ما يعتمل من مفاصل في طبقات المجتمع. هناك فجوة بين ما ينتج من ثقافة وبين ما يُتقبل منها.

إدراك أهمية الثقافة

الغريب في الأمر أن الثقافة العراقية بمنجزها في الشعر والفنون الأخرى ظلت جادة في مشروعها الحداثوي، وهي عند بعضهم قضية بحجم الحياة والموت، ومشروعها متقدم على أمثاله في الوطن العربي، بل وهي مثار إعجاب الكثير من منتجي الثقافة والقراء العرب. لكننا لو سألنا عن مدى تقبلها وفاعليتها في الجامعة مثلاً لأصابتنا الخيبة، إذ لا نجد بين مئات الآلاف من طلبتنا إلا القلة والندرة، ممن يدركون عن قرب أهمية الثقافة هذه وينزلونها المنزلة التي تستحق، أما حضورها وفاعليتها وتأثيرها داخل المجتمع فلا يكاد يرى، ويوعز بعضهم ذلك الى الهوة العميقة بين اللغة والكلام، معللين ذلك، بتذوق العامة للشعر الشعبي وعزوفها عن قراءة الفصيح منه، حتى بتنا نحظى بمن يحاججنا في أفضلية اللون هذا من الشعر على قصائد عظيمة كتبها السياب والبياتي وبلند ويوسف الصائغ وغيرهم، وهي أزمة في الفهم لا نجدها في ثقافة مصر مثلاً، حيث تنشر الصحف الثقافية المصرية قصائد الشعر الفصيح والعامي على صفحاتها، دونما شعور بأفضلية هذه على تلك.

الثقافة مركز اهتمام السلطة

ولا يظننّ أحدٌ بأننا هنا إنما نقلل من شأن الشعر الشعبي، أبداً، فمن أدرك ستينات وسبعينات القرن الماضي يلاحظ انَّ العراقي المثقف كان يحمل ديوان “أنشودة المطر” للسياب ورواية “النخلة والجيران” لغائب طعمة فرمان ولوحات جواد سليم وضياء العزاوي مع ديوان “للريل وحمد” لمظفر النواب ويبشر بقصائد جميلة لعريان السيد خلف وكاظم اسماعيل الكاطع، وكانت روايات شمران الياسري ذات الطبيعة الشعبية متداولة بين العامة والخاصة، وكذلك الحال مع الأغنية، فأغاني مائدة نزهت وناظم الغزالي وسواهما أعمال ثقافية تتساوق منسجمة مع ما يتردد ويتصادي في فضاء الثقافة، في ممارسة متقدمة للوعي، ومن يتوقف عند قصائد النواب يجد أن الشاعر فيه أكبر من شاعر شعبي، أكبر من مثقف يحمل رسالة واحدة. كانت قضية الثقافة مركز اهتمام السلطة، أو لنقل أن السلطة آنذاك لم تكن قادرة على فك ارتباط الثقافة مع المجتمع في تطوره وتجدد آليات وعيه، لكن الفجوة حدثت في الحرب العراقية الإيرانية، والنكوص بدأ من هناك، حين وجد المثقف والمجتمع نفسيهما خارج العناية.

محافل أسهمت بتخريب الثقافة

نستطيع أن نرصد أمكنة وشخوصاً وتجمعات ومشيدات ومحافل أسهمت في تخريب الثقافة العراقية، أو في توسيع الهوة بين الثقافة وما تتطلع اليه وأهمية حضورها في المجتمع وبين طبقات المجتمع التي لم تستطع تمثل الثقافة هذه، بسبب ما قامت به الجماعات آنفاً. فحين يفتي رجل الدين بحرمة الموسيقى ويجرم رقصة الباليه ويمنع الاختلاط تكون الثقافة قد فقدت مفصلاً مهما من سبل تقبلها، وحين تخفق المدرسة بتحقيق نسبة النجاح جراء تراجع التعليم، تكون الثقافة قد خسرت مفصلاً آخر، وحين تعمل جماعة ما على جعل فكرة الموت أخلد من فكرة الحياة في الضمير العراقي ستكون الثقافة قد خسرت أجمل معاقلها، ألا وهو القلب، وحين تصبح سير أبطال العشيرة، الذين يغيرون على العشيرة الأخرى ببنادقهم وبيكيساتهم بسبب جاموسة مثابة وعنوان شرف ستكون الثقافة قد خسرت مفصلاً آخر، ومثل هذه وتلك حين يغادر القاعة محافظ المدينة ساعة تعزف الموسيقى، وحين لا تنشر الصحيفة صور فاتنات هوليود، وهن على البساط الأحمر بفساتينهن الجميلة، وحين لا تذيع فضائية أخبار الموضة في العالم، وتتعفف فضائية أخرى عن نشر صور المستحمات على الشواطئ بنيس الفرنسية، وهكذا ستكون الثقافة قد انحدرت الى ما هي عليه الآن.

سقطوا في فخ الطائفة

تنازل بعض المثقفين عن أدوارهم التي خلقوا من أجلها، وتراجع آخرون عن مشاريعهم في تعزيز قيم الجمال والإنسانية، وفي متوالية غريبة، انحنوا للعاصفة، سقطوا في فخ الطائفة والعشيرة والحزب السياسي وقدموا تنازلات باهظة الثمن، وذهب نفر غير قليل الى الوليمة السياسية، فيما تفادى آخرون الوقوف الحقيقي بوجه الظلام، بعضهم لا يريد أن يخسر موقعه، وبعضهم الآخر لا يريد أن يكمل مسيرة الحياة الحقيقية مع ما ابتدأ به. المشروع الثقافي ليس نزهة وليست الثقافة شعراً ولوحة تشكيلية ومعرضاً فنياً، وما هي بحديث في الألوان والاشكال والأنماط والمدارس والمهرجانات، أبداً، هي معركة الوجود الإنساني بين الضوء والظلمات.

لا يمكن الاستسلام للصائر والمتشكل بفعل العابر والراهن. داعش والمجاميع المسلحة وحروب الطوائف وتناحر المستفيدين، ومستغلو الخلل الأمني والفراغ السياسي وأمثالهم من الفاسدين والمشوهين طارئون وعابرون، لن يبقوا طويلاً في مشهدنا العراقي، الحياة ستنتصر، الشعر والموسيقى والفنون وقيم الجمال كلها ستنتصر، فكونوا أقوياء يا رسل النبل، ما ينتظرنا أكبرمن ذلك بكثير، وما نعمل عليه أبعد مدى وأجلّ قيمة، أنتم المنتصرون في النهاية، لأن قانون الحياة هو قانون الخير. الشعر والموسيقى والألوان مثل أقداح الماء وحبات القمح وعناقيد الفاكهة، هل في الأرض طالبُ حياة يستغني عنها.