الجزائري وضبــاب أمكنــة بغــداد

علاء حميد إدريس /

ظل المكان – مدناً، ومحلات، ومواقع أثرية، ونصباً تذكارية – في العراق غائباً عن الكتابة والتوثيق، على الرغم من النشاط الذين ظهر منذ تأسيس قسم العمارة عام 1959 في كلية الهندسة جامعة بغداد، من خلال المشاركة في بناء بعض من معالم بغداد المعمارية والحضرية.
إن بغداد وصورتها المعمارية ظلت مشتتة غير واضحة، بالنسبة لمن يريد معرفة تاريخ هذا المكان، فهناك عدم وضوح بين بغداد التاريخية والاجتماعية والحضرية والمعمارية.
ذاكرة الصور
في كتاب زهير الجزائري (ضباب الأمكنة) الصادر عن دار المدى العام 2020، يجتهد الكاتب لإزاحة الضباب الذي يلف الأمكنة البغدادية إذ نواجه معه عدم القدرة على تكوين صورة محددة لهذه الأمكنة، لذلك يتعامل (الجزائري) مع المكان أدبياً بتحويله إلى نص روائي يصف فيه تحولاته وما دار فيه من أحداث.
حين نراجع محتويات الكتاب، نلمس أن الأمكنة التي في جانب الرصافة قد غلب حضورها على التي في جانب الكرخ، يضع الجزائري تصوره حول كيفية دخول هذه الأمكنة إذ يقول: “أردت في هذا الكتاب أن أثبت بالكلمات واقعاً هارباً، ومن خلال الكلمات أعطي هذا الواقع معنىً ما. المكان كان هاجسي ووسيلتي، لكنه يهرب مني حين أغيب عنه أو أعود إليه، بين ذاكرة الصور وذاكرة الكلمات لم تأتني هذه الأمكنة وحكاياتها وأنا مستلق على قفاي، ولا هي اخترقتني وأنا أسير في منفاي ساهياً عنها، فلكي أتذكرها وأدرك جوهرها الخفي ذهبت أنا إليها.” يكشف لنا زهير الجزائري في هذا النص عن علاقته بهذه الأمكنة، فهي ذاكرة يحملها معه في منفاه الذي غادر إليه في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
حدد (الجزائري) -في كتابه- الأمكنة التي أراد إزاحة الضباب عنها، فبدأ بالكرادة وشوارعها ثم البتاويين، وجسر الجمهورية، أبي نوّاس، الميدان، شارع المتنبي، القشلة، شارع الرشيد، ساحة التحرير، الجادرية، الخضراء، قصر السلام، ساحة الفردوس، مقهى المعقدين، زيونة، شارع فلسطين. ثم بعد ذلك يعمد إلى نقل صور الأمكنة لنا من خلال تجواله فيها، تجوال يحاول فيه استفزاز ذاكرة المتلقي لتاريخ هذه الأمكنة، فأكثر ما يميز الأمكنة البغدادية هو تغيرها المستمر وفقدانها لطابعها الذي أسست عليه أول مرة.
الاختلاط والتناقض
السير في شوارع الكرادة يكشف الكثير من المميزات والخصائص لهذه المنطقة، فهي منطقة نابضة بالكثير من النشاطات، ما بين زحمة الناس فيها وتنوع محلاتها، واختلاف مشارب ساكنيها، يلتقط زهير الجزائري الطابع الغالب على الحياة في الكرادة: “حين تسير وسط الزحام، أو ضده، عليك أن تلتقط انطباعك بسرعة كما العصفور: ابن المحلة الكهل الذي خرج ليشتري الخضار وهو لا يزال بـ(روب) البيت، البنت البدينة القبيحة التي تتظاهر بالقرف من كثرة المتحرشين، أو التي تتلوى من ضيق البنطلون، كثيراً من الرغبات المكبوتة، كثيراً من الأحلام التي تفلت حين توشك أن تتحقق، كثيراً من الضيق من جمال الأشياء القريبة والصعبة المنال.”
تجمع الكرادة بين القديم والجديد، فهناك الباعة القدماء من الذين توارثوا مهنتهم من الآباء والأجداد، يقابلهم باعة جدد (أصحاب البسطيات)، يلاحظ (الجزائري) التغير الذي أصاب الكرادة بعد انفجار 2016، إذ تغيرت أماكن الباعة وجاء غيرهم، يصف وصوله الى مكان الانفجار: “حين وصلت الى موقع المذبحة توقفت لأجمع الأشلاء بعينّي، رأساً على الرصيف وآخر تدحرج إلى عرض الشارع، ويداً علقت بأكمام القميص الذي كانت ترتديه، ما من دم لهذه الدمى البلاستيكية، لكنها أحالتنا لأجساد قتيلة، وقد منحتها المجزرة سمة نساء حقيقيات جمّد الموت تعابير الألم على وجوههن. نظرت إلى البائع الواقف بباب دكانه مصفراً قد تجمد الخوف في وجهه، لم يصحُ بعد من صدمة المذبحة، لقد مرّ القتلة وتوقفوا أمام الواجهة”.
الاستغراق في وصف مجريات الحياة سمة بارزة في توثيق المكان عند زهير الجزائري، لهذا تتعرف إلى المكان من خلال الحياة التي فيه، بعدما يختتم تجواله في الكرادة يلاحظ أن النسيان عند أهل الكرادة هو ما يجعلهم يتخطون الذي مروا فيه من انفجارات وأزمات: “التذكر يعرقل الحياة هنا بين ناس الكرادة، فقد مرّنوا أنفسهم على سرعة النسيان.. على عجل يكنسون شظايا الزجاج وبالماء المتدفق، يغسلون الدماء ويعيدون ترتيب الأشياء، وخلال أيام يعيدون الواجهات بألوان مختلفة، النسيان حرفتهم لكي يستمروا في الزمان والمكان، حتى ولو بقيت في الروح شظية موجعة “.
مدينة الرحيل
يصل الجزائري إلى منطقة البتاويين لكي يرفع عنها الضباب الذي لفها وغيب وملامحها وحشرها في صورة واحدة، منطقة للهامش والمنسيين والغرباء، ربما إشارته لها بأنها مدينة للرحيل، وليس الإقامة، تثبت هذه الصورة، تقع البتاويين على جانبي شارع السعدون من ساحة الباب الشرقي ولغاية ساحة الفردوس، يحدها شارع أبي نوّاس ونهر دجلة غرباً، وعلى شمالها ساحة التحرير، وعلى جنوبها منطقة الكرادة، الشاخص الأبرز في البتاويين هو قدم البيوت وكثرة الفنادق والمحال التجارية، فهي منطقة اشتباك لأغلب المارين ببغداد، وهناك في وسط البتاويين بساحة النصر ينتصب تمثال عبد المحسن السعدون. ينسج تاريخ هذه المنطقة خيوطه ضمن أحداث كثيرة ومميزة، فضلاً عن ذلك، كانت هذه المنطقة سكناً ليهود العراق أيام الملكية، وحين يصفها (الجزائري) يشعرك بأنك تعود الى التاريخ وأحداثه: “بيوت البتاويين الحصينة التي بناها اليهود، على الطراز البغدادي، تتلقى الضوء من السماء وتوزعه على الغرف. تاهت هذه البيوت بعد ترحيل اليهود وفقدت مفاتيحها، فبقيت أبوابها سائبة. سكنها المسيحيون المهاجرون من سهل الموصل وهم على عجل. فقراء يعملون في البارات، موظفون صغار، عاطلون عن العمل، كانوا مادة القاص أدمون صبري في مجموعته (أيام العطالة).”
التنقل مع زهير الجزائري في (ضباب الأمكنة) يدفعنا للبحث عن المفقود من تاريخ بغداد ومحلاتها، وكأننا نواجه نسياناً لا إرادياً لما فيها من غنى وثراء يسكن بين ثنايا القصص والوقائع التي مرت بها تلك الأمكنة، لقد تأكد لنا أننا حينما نفقد ذاكرة بغداد سنفقد معها ملامح العراق وما فيه.