الروائي ضياء الخالدي: المشهد السردي بخير والنقد “الجاد” هو الأقل فاعلية!

حوار أجراه: د. علاء حميد إدريس /

حين نقرأ روايات ضياء الخالدي، نشعر أننا ملزمون بالاطلاع على تاريخ العراق السياسي، وذلك لتوظيفه أحداث هذا التاريخ في نصه الأدبي. الخالدي، المولود في عام 1975، يجعلك تلمس في منجزه الأدبي أنه شاهد وموثق روائي لما مر به العراق بعد عام 2003.
وعلى الرغم من إصدار عمله الأول (النشيد الأخير)، مجموعة قصصية عام 2001، لكنه في روايته (يحدث في البلاد السعيدة) عام 2006 الصادرة عن دار الشؤون الثقافية، أخذ يحول نصوص رواياته إلى سؤال يتسرب إلى ذهن من يقرأه: لماذا يحدث في العراق كل هذا وما أسبابه؟
“مجلة الشبكة العراقية” التقته لتحاوره عن مشروعه السردي وتحولات الثقافة والأدب في العراق، حوار بدأناه بسؤال:
* هل تعتقد أن الرواية باتت مقروءة من العراقيين بعدما أخذت تتناول ما يمس حياتهم، والأزمات التي يعيشونها؟
– هذا صحيح، فبعد تغيير نيسان 2003 أصبحت المسافة ما بين الأدب والمجتمع قريبة جداً، وما كان غائباً أصبح ضمن مساحات الكتابة. المسكوت عنه بالضرورة يعني أزمات أبعدت عن السطح لضرورات سياسية أو دينية، والرواية قادرة بحكم طبيعتها الفنية على التوغل عميقاً في بنية التعقيدات، وطرح القضايا الكبرى ما دامت تعيش في فضاء من الحرية.. يمكن القول إن القارئ العراقي وجد نفسه في الرواية المحلية. في تاريخنا الحديث هناك زوايا لا يمكن التقاطها بغير الأدب، والرواية بشكل خاص، إذ نرى الفرد وهو تحت ضوء ساطع بمواجهة الأحداث المصيرية التي تلم بالمجتمع. خيارات العيش، التي يجبر عليها في كل تحّول سياسي، هي تغيّرات قسرية مفاجئة لها ارتدادات في بنيته النفسية وتكوينه الفكري، وليست ذات طبيعة تلقائية تنتقل فيها الحياة بسلاسة.
كما قدّم الانفتاح الكبير في الميديا بأنواعها إلى الشغوفين بالقراءة عالماً رحباً. كل الكتب، سواء بمتونها أو عروضها متاحة في شبكة الإنترنت، ما وسّع دائرة المعرفة، وأعطى الرواية المحلية الفرصة كي تكون في مجال الاهتمام قياساً إلى ما سبق. ساهمت في ذلك أيضاً شعبية جنس الرواية في العالم، بوصفها الأكثر قدرة على استيعاب مشاكل العصر وتعقيداته. في هذا المناخ أصبح الروائي قريباً من القارئ، ويمكن له أن يتفاعل وينصت إلى أبسط وجهات النظر عن أعماله، والحوادث التي يعيشونها. وهنا، لا أشير بالطبع إلى انسحاق كلي للذات المبدعة مع فيضان الوقائع والآراء وردود أفعالها، وإنما إلى تلك المسافة الآمنة ما بين الإبداع بوصفه شأناً جمالياً، والمادة الفنية التي تتيح للكاتب التعرف جيداً إلى الواقع.
* برأيك بماذا اختلفتم، أنتم الروائيين الجدد، عن الروائيين الذين سبقوكم، هل الاختلاف في الموضوع أم في الأسلوب؟
– أعتقد أن عبارة “الروائيين الجدد” تأتي هنا ملمحاً زمنياً وليس نقدياً، وأقول، إن السمة الظاهرة لحجم النتاج الروائي والنماذج المميزة فيه تعطينا الحق في الحديث عن اختلافات واضحة، في الموضوع واللغة والأسلوب، والجواب هنا يدعم الإجابة السابقة كما أظن.. الثيمة العراقية تتغذى باستمرار من الصدمات المتكررة التي تعيشها البلاد، حتى ولو غادرت الزمن الحالي إلى أزمان قريبة أو بعيدة. هناك توتر على الدوام يفرض على الكاتب، بصفة لا شعورية، تحديد طبيعة الموضوعة التي يكتبها. نعم، يحاول الكاتب تحجيم “انفعاله” بالأحداث إلى أقصى ما يستطيع، لكن في النهاية يخضع إلى ابجديات الفضاء المعاش، ونوعية الأدوات الملائمة للتعبير عن الظواهر.
* في رواية (قتلة) وبطلها (عماد الغريب)، هل يمكننا القول إنك كتبتها بوصفها وثيقة لما شهده العراق عام ٢٠٠٦، وهل تعتقد أن شخصية عماد الغريب معبّرة بنحو ما عن شخصية العراقيين؟
– كل رواية تنطلق من الهمّ العام يمكن وصفها بأنها وثيقة فنية، ورواية (قتلة) نستطيع أن ندخلها في هذا الإطار، ولاسيما بعد كثير من كتابات الدارسين لها، أو آراء القراء التي ما زالت تصلني بالرغم من صدورها في عام 2012. باختصار، إنها سيرة العراقي في تلك الأيام الصعبة، حيث تضيق الأماكن، وإن اتسعت فإنها تبقى رهينة الوقت الذي يمكن أن يسلب الحياة من الإنسان جراء انتماءاته الصغيرة.
كما واجهت الرواية سوء فهم من كثيرين أيضاً، والمفارقة أن هذه الآراء كانت متباينة إلى حد صارخ، هجاها البعثي وضحيته، والعربي والعراقي ممن ينظرون إلى الشخصيات بوصفها ممثلة لطوائفهم، وكذلك أنصار الملكية والجمهورية. الحقيقة أن الجميع يستطيعون أن يقتطعوا من متن الرواية ما يريدون كي يدعموا أفكارهم الخاصة، ما يعني في الوقت ذاته أنك تستطيع أن تفند كل وجهات النظر عبر الرواية نفسها. حاولت (قتلة) أن تتقصى جذور العنف في العراق، وكان عليها ملاحقة المنتصر والمهزوم وفق قناعة تخص كاتبها، وفي رأيي ينبغي أن تُحترم هذه القناعة كونها وجهة نظر في النهاية.
* ما أسباب سوء الفهم فيها؟
– يعود سوء الفهم إلى أننا لا نرى المسافة بين السلوك الشخصي للفرد والواجهة التي ينتمي إليها، العاهر لو مارست عملها مع شخص أجنبي فتلك إساءة للبلد ولهويتها الفرعية بزعم بعضهم، بينما في الحقيقة هي مسؤولة عن أفعالها وسمعتها فقط. ينسحب الأمر على السياسي ورجل الدين وكل من يعتنق فكراً أو يحمل مسؤولية ما. سوء الفهم يأتي أيضاً من هشاشة المؤسسات والأحزاب وارتباطها بالأفراد أكثر من فكرتها المؤسسة لكيانها، وهذا لا نراه في الأمم الحديثة التي يكون فيها السقوط فردياً بحكم ما اقترف من أخطاء، ولا ينسحب على الكيانات بذلك القدر الكبير لدينا.
* لنتحدث عن شخصية بطلها (عماد الغريب) وتناقضاتها؟
– من المؤكد أن شخصية البطل في رواية “قتلة” لها وجود في الشخصية العراقية، لكن ليس بهدف النيل منها كما فُهم أحياناً. عماد الغريب شخصية رخوة، يرى أن الفكرة ليست أهم من حياته، ولا ضير لديه في أن يترك فكر اليسار إلى اليمين حتى لا يتعرض إلى الاعتقال، تلك قناعاته التي يمكن أن نختلف حولها، وهذا التحول السريع لديه لا علاقة له بالانتهازية، عكس صديقيه اللذين كانت لهما أهداف مادية وخارجية واضحة. وقع سوء الفهم لأن الثلاثة كانوا يساريين في شبابهم الأول، ثم تركوا قناعاتهم السياسية بعد سنوات قليلة، أي في بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي. السؤال هنا، لماذا عُدوا ممثلين لليسار في زمن الحرب الطائفية 2006؟ القارئ المحايد لن يهتم بهذا السؤال وسيتجاوزه سريعاً نحو التفاصيل الأهم في حياة العراقي الفرد، وكيف واجه العنف الأعمى، وماذا تعني له الهوية الصغيرة أمام الهوية الكبرى المتمثلة بالوطن.
وأود الاشارة هنا إلى أن رواية (قتلة) ستصدر هذا العام باللغة الإيطالية عن دار MReditori، وبترجمة الأستاذ كاصد محمد، كما أعمل حالياً على تنقيح أصلها العربي من أجل إعداده للطبعة الثانية.
* رواية (١٩٥٨- حياة محتملة لعارف البغدادي) سبرتَ فيها أغوار تاريخنا المروي، ما الذي أغراك بكتابتها؟
– أرادت الرواية النظر إلى الإنسان وفقاً للخيارات التي يتخذها بنفسه، أو تلك التي يُجبر عليها، فكل تفصيل حياتي يؤدي إلى آخر، ومع هذا التراكم نملك سيرنا الشخصية التي تتقاطع وتتآلف هي الأخرى مع سير أناس نعيش معهم، أو لا نرتبط بهم في يومياتنا بشكل مباشر.
التأثيرات غير محدودة، وتبدو كاحتمالات عيش ممكنة كثيرة. الرواية انطلقت لتستهدف طبيعة تلك الاحتمالات عبر توظيف نظرية فيزياء الكم، وما تقدمه من ظاهرة تتعلق بأصغر كيان فينا وبالطبيعة، وهو يتحول من شأن إلى آخر وفقاً لمكانه والتأثيرات التي تواجهه.
لذلك، كانت فكرة عدم سقوط الحكم الملكي في العراق عام 1958 واستمراره حتى عام 2000 مثيرة لمن يعيش المحصلات التاريخية المؤلمة التي وصلها الإنسان العراقي الآن. الرواية لا تلاحق الحدث التاريخي بقدر ما تلامس ذلك عبر حياة بطلها عارف البغدادي (90 عاماً) ذي النظرة الصوفية للعالم، والمقرّب من الملك فيصل الثاني والقصر، فنرى بغداد طوال قرن تقريباً من وجهة نظره الخاصة، وأيضاً ما جرى له في الرحلة التي قام بها في عام 1939 بين سوريا وإيطاليا وتركيا التي تزوج فيها وخرج منها بابن لم يلتق به إلّا بعد أكثر من نصف قرن وهو لا يتحدث العربية. الابن كان احتمالاً من الممكن ألا يوجد أصلاً وفقاً للحوادث التي عاشها، كباقي الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة التي يصنعها أفراد كالقادة ومغامري السياسة، فتكون ذات تأثير واضح في حياة الناس البسطاء.