القصيدة الجديدة والمرآة المعكوسة

#خليك_بالبيت

عبد الأمير خليل مراد /

لقد ظفر الشعر العربي بالكثير من المحفّزات التي جعلته فناً قابلاً للتجريب بكلّ أنواعه، وقد شهدت مرحلة ما بعد السياب ظهور العديد من الأسماء التي حاولت أو تحاول التَّسيُّد والاستئثار بموقع الصدارة في كتابة الشعر، وبأنماط وصيغة جديدة، وقد ظلّ هاجس الريادة أو البحث عن موقع ما يشبه موقع السياب ومكانته في الشعر الحديث شاغلها الأول، ولعلّ ظهور قصيدة النثر في واجهة الشعر العراقي يفصح عن مدى القبول والاطمئنان إلى النماذج التي أشرت حالة متقدمة في الإبداع الشعري.
تأثير التراث
وإذا ما تأملنا بشيء من التدقيق والتمحيص انتقال القصيدة العربية من مرحلة القصيدة الكلاسيكية إلى نموذج القصيدة الحديثة، ومن ثم توقفنا عند الأبعاد الزمنية التي قطعتها في مسيرة الشعر العربي وخروجها من أسار النماذج التقليدية إلى الأشكال التي أكدها السياب ومجايلوه، فإنَّنا لا يمكن أن نحصي هذه المديات إلا بالقرون.
ومعنى ذلك أنَّ الروَّاد كانوا يجوسون أرضاً قوية وراسخة تمتد من العصر الجاهلي حيث يظل تراث الشعر العربي ومصادره القديمة من أهم العناصر والركائز التي يبني الشعر المحدث على أنقاضها قصيدته الجديدة، إذ إنَّ عوامل التجديد الباعثة لذلك لم تكن محكومة باشتراطات عرضية أو اعتباطية، بل كانت تقف وراء ذلك ظروف موضوعية وذاتية، وكان وعي التجديد فيها يعبّر عن استجابة تلقائية تحقَّقت على أيدي هؤلاء الروّاد.
إيقاع الحياة والمجتمع
إنَّ ظهور القصيدة الحديثة إلى الوجود يمثّل انبثاق اللحظة التاريخية المطلقة في مسيرة الشعر العربي، بعدما استنفدت أو كادت تستنفد القصيدة الكلاسيكية كلّ أبعادها وأشكالها الرتيبة، وتبعاً لذلك فإنَّ الكثير من الشعر بقي رهين التكرار والاجترار، إذ كلّما أراد الشاعر أن يختطّ له طريقا مغايرا لسابقيه، نرى مثل هذه الإرادة تصطدم ببعض التجارب التي سبقته إلى المضمار نفسه، حيث تتحوّل تجربته أو محاولته إلى سياقات مكرَّرة أو أشكال عقيمة لم يكن لها أي نصيب من البقاء أو الامتداد في ذاكرة الزمن.
ولعلّ الشاعر الحقيقي من يجتهد في خلق نموذجه الشعري، وإن الشعر المكتوب خارج سياقه التاريخي يظل نبتا شيطانيا لم يستطع أن يجد له أرضاً ينمو عليها أو فضاء يرصد من خلاله إيقاع الحياة والمجتمع.
ولو رجعنا إلى الوراء قليلا لنتذكّر بعضاً من شعراء الكلاسيكية الجديدة فكم شاعر نستطيع أن نحصي وكم شاعر يحضر قليلٌ من شعره في خواطرنا أو يمكن أن نستشهد بشيء منه في هذا الموقف أو ذاك، سنجد أن مثل هذه العملية مخيّبة للآمال وإن ادّعى أو توسّل بعض روّادها بأهداب الحداثة في هذه القصيدة أو تلك، فبين أيدينا أجيال من الشعراء ما زالت تكتب هذه القصيدة، غير أنَّنا لم نجد في ما تكتب الا استنساخا مشوّها أو ترديدا صريحا لتجارب المتنبي وأبي تمام والبحتري وسواهم من كبار الشعراء الأقدمين.
وكم تبدو تجليات الحداثة أكثر وضوحا وعمقا عند الشاعر القديم منها عند الشاعر المعاصر، فمن منا يستطيع أن يمرَّ على المتنبي ولم يحضره قوله:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم منه
وإن سرّ بعضهم أحيانا
أو قول أبي تمام:
درت حواشي الدهر فهي تمرمر
وغدا الثرى في حيلة يتكسر
أو قول الشريف الرضي:
بالجدّ لا بالمساعي يبلغ الشرف
تمشي الحظوظ بأقوام وإن وقفوا
رموز النفس
إنَّ حضور هذه النماذج في ذاكرتنا يرجع إلى تعبيرها عن الضمير الجمعي للإنسان، فربّما تتغيّر الجوانب المادية أو تندثر بفعل تأثير الزمن، غير أنَّ الموثبات النفسية في داخلنا ثابتة لا تتغيّر ذلك أنَّ النفس هي مركز الإحساس عند البشر، وقد قال تعالى في كتابه العزيز على لسان عيسى (ع): (إنَّك تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك)، فالنفس عبارة عن وعاء يضمر التحولات المعنوية وهي بمثابة مصدرها الثابت عند الإنسان، حيث وردت مفردة النفس في القرآن الكريم أكثر من 50 مرّة، وقد ذكر يونك أنَّ النفس هي التي تخلق رموزها كما تنتج النباتات زهورها وهذا يعني أنَّ النفس مصنع أو قل موقع الحفريات الذي يعقل أو يطلق الانفعال عند المبدع.
لقد ذهب أحد الباحثين إلى أنَّ الحداثة تمثّل نفيا للماضي وتعلُّقا بالحاضر، وقد ثبت بطلان مثل هذه الدعوى، فإنَّ نفي الماضي يعني إلغاءه وإن إلغاء التراث بما فيه من منجزات أو منطلقات تثري الحاضر تعني مصادرته، إذ لا يمكن للإبداع أن ينشأ من الفراغ دون الارتكاز على ماضٍ يضرب في القدم، إذ كيف استطاع شاعرٌ مثل امرئ القيس أو المتنبي أن يغادر عصره ليمثّل ذروة الحداثة في التعبير عن حساسية عصرنا الراهن، ولنا أن نتأمل قيمة أو عمق التاريخ الشعري الذي انطلق منه الشاعران ليظل شعرهما حاضرا في وجداننا إلى هذا اليوم.

النسخة الألكترونية من العدد 361

“أون لآين -4-”