جولة في مطابخ المثقفين… تجاربٌ فاشلة وأحــلامٌ مؤجــلة

استطلاع : رجاء حسين /

فن الطبخ ومهاراته لم تكن حكراً على النساء أو فئات معينة عبر التاريخ البشري والثقافات الإنسانية، بل إنه ابتدا من رحلات صيد الملوك والشواء واعدادهم الطعام وتقديمه للرعية. ومع تقادم الأزمنة أصبحت للطبخ ثقافة خاصة تختلف باختلاف المجتمعات ونمط عيش الشعوب في الدول المختلفة.

هذه المرة سنتحدث عن علاقة المثقف بهذا الفن، علاقة كُتب عنها سابقاً العديد من المولفات التي مزجت بين فنون الطبخ وفنون الكتابة الأدبية، نذكر منها كتاب “الطبيخ” لمحمد بن حسن البغدادي في العصر العباسي، وفيه شرح (البغدادي) فنون الطبخ والطعام وأصنافه بلغة شعرية، كما كُتبت أيضاً كُتب أخرى بالطريقة ذاتها لابن سيار الوراق، وابن ماسويه، وابراهيم بن المهدي، وابن داية، تضاف إليها كتب الأشربة للفيلسوف مسكويه، الذي ألّف كتباً عن الطبخ ايضاً، كُتبٌ انتشرت بشكل واسع، وكُتبت بطريقة أدبية شعراً ونثراً في تلك الفترة. من هنا يمكننا القول إن علاقة الثقافة والمثقف بفن الطبخ علاقة قوية وممتدة عبر أزمنة قديمة، وهذا ما جعلنا نستكشف مطابخ عيّنة من مثقفينا عبر هذا الاستطلاع…

علاقة فنطازية
بداناه بالروائي سعد سعيد، الذي تحدث عن هذه الموضوعة قائلاً: لاعترف اولاَ أن اقصى معرفتي بالطبخ هو تحضير الرز، لاسباب عائلية بحتة طبعاً، فبالرغم من المديح الذي اتلقاه ممن يتذوق (تمَّني) الا انني لا اجرو على دخول المطبخ لاستعراض مهاراتي (الطبخية)، لكن لانني لا اخلو من طموحات فنطازية، اقرر احياناً اقتحام المطبخ لتنفيذ فكرة لاكلة خيالية تفتق عنها عقلي، ناتجة عن شعوري بالجوع في اواخر الليل، لكنني ما إن ادخل المطبخ حتى يتهاوى تصميمي امام اي طعام صالح للاكل قد اجده في البرّاد، كان اجد صحن مرق باقياً من غداء اليوم، او حتى عشاء الامس، وما اسعدني لو عثرت على نصف صحن من طماطم مقلية، عشقي القديم، او ان يكون الفلفل الحار المخلل هو لقيتي، حينها اسارع الى ضمّه الى جانب اية خضرة اجدها في البراد، الى جانب شرائح من الطماطم لصنع نسختي المفضلة من (شاطر ومشطور بينهما كامخ) -حسب الاسطورة التي يتداولها بعض ادعياء الثقافة على انها حقيقة-! موضحاً انه، وفي حال لم يسعفه الحظ بالعثور على شيء، فسيكتفي بقلي بيضة، وهي المهارة الوحيدة التي تردد بالاعتراف بها في بداية حديثه معنا، مضيفاً: لكنني وان كنت اجيد طبخ البيض قلياً وسلقاً، الا انني لا استطيع ان اتناسى فشلي الذريع في طبخ (البيضة) على النصف.

متذوق الاطعمة
أما رسام الكاريكاتير علي المندلاوي، فإن له تجاربه في المطبخ اكتسب مهاراتها في الغربة قبل الزواج واعتزال الطبخ، اذ قال: علاقتي بالمطبخ تاريخية، فخلال اعوام الغربة ابتداءً من عام ١٩٩٢ وحتى عام ٢٠٠٤ كان علي ان اعد طعامي بنفسي، وهكذا من حبات رز مطبوخ بين سطر وسطر -حسب تعبير احد الاصدقاء-، الى اطباق الرز الابيض والاحمر والبرياني والكبسة وغيرها من الماكولات، اضافة الى التفنن في اعداد البيض للفطور بالجبنة وبانواع السجق، المسلوق طبعاً مع العمبة والطماطم، مشيراً الى ان الذ اكلة لديه هي (سندويج) الجبنة مع الطماطم والزيتون، مضيفاً: اما بعد الزواج فقد احلتُ نفسي إلى التقاعد، وصار اختصاصي اعداد صحن السلطة، والقيام بدور متذوق الاطعمة في البيت.

روائحٌ لا تموت
الشاعر السوري هاني نديم كان له رايه الذي وصف فيه المطابخ بانها تشبه نصوص اصحابها، (نديم) قال: المطبخ بالنسبة لي، هو الركن الاكثر غموضاً في المنزل، هو صندوق العجائب وسيد الدهشة وصانعها، كلما دخلت اليه او خرجت منه، انه المكان الذي يجمع السكّر مع الملح ويواخي بين الزيت والنار، انه صندوق اسود للذكريات والافكار وحافظة حية للروائح التي لا تموت؛ مثله مثل الصوت، انه ليس فقط معدة المنزل بل قد يكون في كثير من الاحيان عقله المدبّر.
موضحاً ان هذه المقدمة كانت من مقال طويل كتبه عن علاقة الادب والادباء بالطبخ والمطابخ، مضيفاً: اذا كان الرجل ياخذ اهمّ قراراته في الحمّام فان المراة تاخذ اصعب قراراتها في المطبخ، وشتان بين قرارات الرجال واحكام النساء، اجارنا الله من صفناتهن في المطبخ وعلى السرير وتحت الصوفا! مشيراً الى انه ومن العجيب، ان اول مفردة تخطر ببال الرجل في المطبخ – ان لم يكن جائعاً – هي السكين! ولان المراة تعرف كل شيء عن اي شيء، فهي تضع للرجل السكاكين في اقرب منطقة من الباب حتى لا يتوغل في مملكتها ويعيث فساداً كوعلٍ بريٍ وقع على السهوب. مضيفاً: افكر كثيراً لماذا اشهر الطباخين في التاريخ هم من الرجال، لا اعرف تماماً السبب، الا انني اجزم ان من يحب الطبخ والطهو من الرجال، يطبخ بشغف واهتمام منقطع النظير. وبيـّن (نديم) في ختام حديثه انه من منطقة مشهورة بطعامها اللذيذ وحلوياتها الفاخرة، من (النبك) في (قلمون) سوريا، وان الطبخ هناك امرٌ اعتيادي شائع بين الرجال والنساء على حدٍّ سواء، وانه يجيد الكثير من الطبخات المعروفة، ما خلا المحاشي وما لفّ لفها.

تجربة اولى في الطبخ
في استطلاعنا هذا وجدنا ان التجربة الالى لدى مثقفينا لا تخلو من الكوارث، وهو ما اشار اليه الممثل والمخرج المسرحي يوسف عباس في حديثه عن تجربته الاولى في الطبخ وعلاقته به: اول تجربة طبخ لي كانت (الدولمة) مع اثنين من الاصدقاء، وعند التحضير بدات بحشوها ووضع الملح على المكونات، بعد ان جهزت ورق العنب والبصل وباقي الخضراوات، وفي هذه الاثناء جاء صديقي الاول واخبرني ان اضع الملح عليها، فوضعته متناسياً اني كنت قد وضعته سابقاً، وهو ما فاتني بسبب (خبصة الطبخ الاول)، وبعد نصف ساعة من التحضير جاء صديقنا الثالث ووضع الملح للمرة الثالثة دون سوالي وصديقي، لاعتقاده باننا نسينا وضعه، وفي النهاية وبعد التعب والجهد في طبخ (الدولمة)، كانت النتيجة (دولمة ملح بامتياز)، فرميناها واشترينا دجاجة مشوية للغداء. (يوسف)، وبعد تجربته (الدولمية)، اوضح ان الطبخ هو فترة تامل وراحة من زحمة الحياة، وانه يكون اجمل اذا كان مخصصاً للاحبة والاصدقاء، مشيراً الى تعلمه فني الطبخ الإيطالي واليوناني جيداً، وانه مازال يبحث ويتفنن بكل اصناف الطعام.

حاجة لا هواية
اما الاكاديمي واستاذ الفلسفة الدكتور ستار عواد، فتحدث عن علاقته بالمطبخ قائلاً : الدخول إلى المطبخ بالنسبة للرجال – اذا لم يكن هواية لدى البعض – هو حاجة لتحضير الطعام لمن يعيش لوحده، او لمن لا يمكنه الالتزام بمواعيد وجبات الغذاء الرئيسة مع العائلة بسبب ظروف عمله. بالنسبة لي، اعتدت تحضير الطعام حين العودة من العمل او حين أخرج صباحاً في وقت مبكر، ودائماً ما أعد العشاء بنفسي بعد العودة من العمل والالتزامات الاخرى، احيانا اجد المتعة فيه، واضطر احياناً الى فتح (اليوتيوب) لعمل اكلات معينة، فاجد هناك متعة حين يخرج الطبق افضل مما توقعت.

هوية ثقافية
في حين تحدث الفنان التشكيلي وسام مناحي عن هذه الموضوعة، سارداً تاريخ الطبخ وهويته، اذ قال: هناك فرضية عند علماء الانسان تفيد بان الطبخ ادى الى ان نصبح بشراً، وان الطبخ متضمن في طبيعتنا، وانه من مكونات طبيعتنا البيولوجية، بمعنى انه امر فطري بالنسبة لنا، اما فكرة تحضير الطعام وتحسينه واختراع النكهات وتوليفها فهذا برايي اهم منجز في تاريخ البشرية، في الحقيقة انه الفن الوحيد من بين كل الفنون الابداعية الذي تشترك فيه معظم حواس الانسان.
مبيـّناً انه، بالاضافة الى الحس الفني الفطري الذي يتمتع به الاشخاص الذين يمارسون الطهو، فإن هناك بالتاكيد جانباً اخلاقياً يتعلق بالجذور العميقة لتاريخ الطبخ وتحضير الطعام، وان تاريخ الطبخ مرّ بتحولات كثيرة قبل ان يصبح عادة يومية للنساء، مشيراً الى وجود خلط كُلي بين الطبخ كعمل للنساء وربطه بالمكانة المتدنية للاسف، في حين يرى (مناحي) ان الاختصاصيين في علم الانسان، يخبروننا انه في جميع الحضارات اقترن الرجال بالصيد، والطبخ جزء من الصيد.
مضيفاً: على سبيل المثال، تحدث هوميروس في ملحمة الاوديسة عن تناول الطعام، حيث نرى اولئك الابطال العظماء اصحاب المكانة الارفع في ذلك المجتمع، وهم يخرجون ويذبحون الطرائد ويطبخون ويقدمون الطعام، ولا يحط هذا من قدر (اخيل)، احد ابطال الملحمة، ان يقوم بفعل الطبخ، لان الطبخ لا ينقص من مكانته، فهو عمل هام جداً كاحد الطقوس. موضحاً أن كل حضارة تضم قواعد مهمة بالنسبة لاطعمتها، واي خرق لهذه العادات ينجم عنه نفور اجتماعي، الا ان هذه القواعد في كل الاحوال ضرورة تعتمدها الحضارات كافة للتمايز والمحافظة على هويتها الثقافية والاجتماعية.