حكاية سندباد البغدادي

باسم عبد الحميد حمودي /

منذ أن ظهر التاجر البغدادي (السندباد) في قصره يقص حكاياته على صديقه الحمال (الهند باد) ومجموعة الأصدقاء الذين يستضيفهم في مجلسه ببغداد, صارت حكاياته على كل لسان, وانتشرت من خلال كتاب (ألف ليلة وليلة) في كل أرض يحلو فيها سمر البشر.
مغامراته الشيقة وسط الغيلان والحيتان والجزر المتحركة كان يرويها لمن يحضر مجالسه في قصره المنيف ببغداد, ليعطي لحكاياته نكهة غريبة يزداد فيها توتر السامع وهو يسمع ذلك التاجر المغامر عندما يصل الى الموت وتنقذه الأقدار ليحول الفشل الى نجاح وانتصار.. ونحن نجد ذلك عبر حكاياته السبع الشائقة.
السندباد…علي بابا ؟!
والملحن عراقي
الحكاية الكارتونية التي يقدمها مسلسل (سندباد .. في كل البلاد) أنتجها اليابانيون عام 1975 ودبلجوا النسخة العربية عام 1979, وهي تحكي قصة الصغير (سندباد) ابن التاجر البغدادي (هيثم) الذي يقرر، بالتعاون مع صديقه حسن, الطواف حول العالم والدخول في مغامرات شيقة بمساعدة علي بابا، ترافقه (ياسمينة)، وهي طائر غريب الشكل.
منتجو هذا المسلسل خلطوا شخصيات متعددة من ألف ليلة لا علاقة لها بالسندباد الأساسي, وجعلوا من (سندباد) مجرد صبي مغامر كثير الجرأة يعاني من مشاكل كثيرة في البحار والجزر الغريبة التي يصل إليها. كتب حلقات المسلسل السينارست (تاكاهاشينومي) وأخرجه (فوميوكوروكاوا), ولحن موسيقى الشارة الأرمني العراقي (أدموند يوارش).
شكل السندباد الصغير
أخذ منتجو المسلسل الياباني شكل (سندباد ) الطفولي من رسم الفنان المصري (حسين بيكار) الذي صممه لأغلفة مجلة (سندباد) التي صدرت في القاهرة مطلع عام 1952.
مجلة (سندباد)
صدرت مجلة (سندباد) في القاهرة عام1952، وكان رئيس تحريرها الكاتب الكبير محمد سعيد العريان, وهو تربوي معروف استطاع أن يوصل المجلة الى كل أرجاء العالم العربي, وأن ينشئ شبكة مراسلات مع الجيل الجديد من القراء الصغار، وأن يدعوهم الى تشكيل ندوات محلية في كل مدينة ومحلة كبرى للتعارف وتبادل الصور والطوابع المحلية.
ندوات السندباد وحكايتي مع : اللواء محمد نجيب! ومحمد قاسم الرجب
كنت أراسل –كغيري من الصبية- مجلة سندباد وأتلقى رسائل مرسومة منها بتوقيع (سندباد) أو (العمة مشيرة)، ما شجعني على إنشاء (ندوة الكرخ) في بغداد مكونة مني ومن المرحومين أخي هاشم والفنان -الصغير ايامها – طارق إبراهيم, وكان ذلك عام 1952, حين كنا نتراسل مع أمثالنا من قراء (سندباد) ومنتسبي الندوات في أرجاء العالم العربي ونتبادل معهم الصور والطوابع التذكارية, ونراسل المجلة للإبلاغ عن نشاطنا.
كان من مسؤولي هذه الندوات: عفاف قنواتي في بعلبك, ومحيي الدين اللباد في المطرية – القاهرة, وسمير هاشم في طنطا, وعصام الزعيم في دمشق, واسماعيل سعيدي في تونس, وكاتب هذه السطور في بغداد الكرخ.
وقد وزعت رئاسة تحرير الجوائز على ندوات المطرية – مصر، وكان يقودها الرسام الشاب محيي الدين اللباد, وندوة دمشق التي أدارها الطالب الشاب يومها عصام الزعيم، الذي صار وزيراً للاتصالات يوماً في وزارة الرئيس بشار الأسد الأولى, كذلك أعلن عن جائزة لندوة الكرخ – بغداد، لكنها لم تصلنا رغم إرسالنا عشرات الرسائل.
كنت صبياً وأشعر بالأذى لأن محيي الدين وعصام وعفاف قنواتي (لبنان) قد تسلموا جوائزهم.. إلا نحن!
وفي رسالة بريدية مفتوحة موجهة الى اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيس جمهورية مصر(يومذاك) كتبت شكوى حول الأمر. أسبوعان فقط وصورة اللواء محمد نجيب وهو يضع البايب تصلني الى الدار، فيما كان عمال المرحوم محمد قاسم الرجب صاحب مكتبة (المثنى) يبحثون عني في سوق السراي مبلغين أصحاب المكتبات كافة الذين قد يعرفوني، منهم المرحومان إبراهيم السدايري وأحمد كاظمية ومحمود قالبجي وحسين الفلفلي. كنت منقطعاً لأيام عن الذهاب الى سوق السراي بسبب امتحانات نصف السنة, وفوجئت بأن أحد عمال قاسم الرجب يصل دار الوالد في الكرخ ليبلغني بضرورة الحضور غداً الى مكتبة المثنى التي كانت تحتل مكاناً جميلاً في شارع المتنبي، هي والمكتبة العصرية ومكتبة المعارف قبل ان تغزو المكتبات الأخرى المتنبي، متحولة عن سوق السراي الذي تحول تدريجياً الى سوق للقرطاسية.. كما هو الآن.
في صباح اليوم التالي ذهبت الى مكتبة المثنى لأقابل عميدها المرحوم محمد قاسم الرجب، الذي رحب بي وقال لي: “خبصت الدنيا”، ثم أعطاني الجائزة المخصصة من مجلة سندباد لندوة الكرخ، وهي عبارة عن شطرنج فاخر ومجموعة سلسلة كتب روائية مبسطة تحت عنوان (أولادنا) وخمسة دنانير كجائزة نقدية.
حملت الجائزة فرحاً وأنا احتسي كأس الشربت البارد واستمع الى حديث الرجب الذي كان وكيلاً لدار المعارف المصرية التي تصدر مجلة (سندباد)، قال لي إنهم اتصلوا به بعد رسالتي الى رئيس جمهورية مصر الذي طلب منهم إيصال الجائزة!
محاولة اختطاف السندباد
جرت منذ فترة تاريخية بعيدة محاولات عدة لاختطاف هذا التاجر البغدادي المغامر، لجمال ما يسرده وحيوية ما قام به في البحار والجزر والأمصار, وما عاناه من عذاب البحر وتقاليد سكانه، وكان أن صنعت له بعض الدول الشقيقة تماثيل تواجه البحر وكتبوا عنه كتباً تغاير الحقيقة، ودعوا المغامرين مثل توم سيفرن الى صنع مركب مثل مركب أو سفينة ركبها السندباد, منطلقاً من المناطق الافتراضية التي صنعتها. أوهام الالتصاق بالسندباد عبر حكايات لاعلاقة لها بالسندباد، البغدادي الإقامة، البصري الهوى، البحري التجوال, لكن كل هذا لم يمنع السندباد من القول في أعقاب رحلته السابعة:
“وصلنا البصرة بعون الله ورعايته, فلم أقم بها, بل اكتريت من فوري مركباً أنزلت فيه أهلي وأحمالي, وسرنا في دجلة حتى وصلنا بغداد دار السلام.”
أذن لم يكن السندباد -بعد كل مغامرة له- يفضل العيش إلا في بغداد, أم الدنيا وسر الحضارة الإنسانية, فمن هو السندباد بعد كل هذا؟
التجوال عبر البحار
ومغامرات اللحظة الأخيرة
كانت حكايات الرحلات السبع للسندباد البغدادي، وهو يركب البحر من البصرة، مثار إعجاب القراء في كل أرض, وكانت هذه الرحلات المحفوفة بالمخاطر تبدأ بمغامرة غير محسوبة تغرق فيها السفينة التي تحمل ذلك التاجر البغدادي، الذي لم يكن صبياً، وليس معه العم علي بابا، ولا يطير حوله ذلك الطائر الذي اخترعته السيناريوهات وسمته ياسمينة.
مغامرا ت السندباد السبع هي أحداث جرت في (الجزر المتحركة) و(الخيول البرية) و(وادي الألماس) و(مكان الوليمة الغريبة) و(الرحلة مع شيخ البحر) ثم (حكاية مقبرة الأفيال)، والسابعة هي رحلة (القافلة).
في كل رحلة يعيش السندباد الخوف والفزع ويلقى الأخطار الداهمة، لكنه يتغلب عليها بحكمته وقدرته على اجتياز المصاعب بشجاعة ويقظة. كانت تفاصيل الرحلات السبع قد جرّت قراء ألف ليلة وليلة إليها, وصنعت في خيال الأدباء والشعراء وكتاب المسلسلات والأفلام حكايات أخرى.
شخصيات أخرى
لم يكن مع السندباد الأصلي صديقه المفترض (علي بابا) ولا دزدمونة, بل كانت كلها إضافات من قبل منتجي السينما وكتاب السيناريو.
سندباد.. في السينما
في عام 1922 أنتجت هوليود فيلما كارتونياً بالأسود والأبيض تحت اسم (سندباد)، لكن عشرات الأفلام والمسلسلات الطبيعية والكارتونية أنتجت في دول تهتم بصناعة السينما ولاسيما الولايات المتحدة واليابان ما يستدعي تأليف كتب عن الجهد الإخراجي والتمثيلي ونشاطات كتاب السيناريو الذي اهتموا بهذه الشخصية البغدادية – البصرية وقدموها.
من ممثلي أفلام سندباد القدامى: ستيف ريفز، وانطوني كوين، وأيرول فلين، ومئات غيرهم، ما يستدعي كتابة حلقة كاملة عن السندباد في السينما والمسرح والأوبرا، إضافة الى أفلام الأنيميشن.
إن روح المغامرة السندبادية استهوت المشاهدين والقراء عبر الزمان, كباراً وصغاراً، بذلك يتجسد السندباد ويكون عبر كل النشاطات الإبداعية إنساناً فاعلاً للخير ويسعى من أجله دوماً… تلك ميزة عراقية تماماً.