عينا أخ لا يموت

#خليك_بالبيت

علي شايع /

أستعير عنواناً للمفكر والكاتب النمساوي ستيفان زفايج وضعه لرواية تفيض بالحكمة والموعظة، عن رجل حكيم قدّر له أن يكون ذات يوم قائداً لجيش ملك هدّد الأشرار مملكته، فيستنهض جنده ليلاً لمباغتة الأعداء في خيامهم، وقتالهم حتى انبلاج صباح يوم نصر صار حزناً سرمدياً على ذلك الفارس النبيل، وهو يرى عيني أخيه بين قتلى الأعداء، تفيضان بالسؤال المصيري؛ قتلتني فماذا بعد؟!. لينقلب حاله إلى أسوأ منقلب، فلا يكاد ينام إلا وتلك النظرة الفاجعة تأتيه عَمْدُ عينين متسائلتين لأخ لا يموت.
تأنيب ضمير القاضي
في تلك الرواية يضع الفيلسوف زفايج أفكاره العميقة بسلاسة وطواعية كما نهجَ في أكثر ما كتب، متسائلاً عن السرّ الإنساني في الحياة كموقف أخلاقي لصحوة تُطيح بكلّ شيء، إلا ذلك المضي إلى آخر الشوط لكشف مكتوم الأنفس المحيطة ومكنون الذات، وتجريدها من جبروتها وعلياء وهمها، فهو حين رفض أن يحمل السيف بعد تلك النظرة الفادحة التي ألفى نفسه ضحية لها طيلة عمره، عيّنه الملك قاضياً، لم يحكم أبداً بالموت على أحد، وجيء ذات يوم بقاتل، فحكم عليه بأن يسجن في غيابة جبّ، ويجلد بالسياط كل يوم.
المجرم المدان أنكر على القاضي الحكيم (فيراتا) عدالته، وقال بظلمه، فظلّت كلمات السجين ترنّ في مسامعه، و”عينا الأخ الذي لا يموت” تؤرقانه، حتى طلب من الملك إجازة لشهر، قال إنَّه يحتاجها لتأمل فكرة العدل كجريمة وعقاب، وشاء أن يجرّب بنفسه ليدخل السجن خلسة ويُقنع سجينه المستحق لعقوبته بأن يأخذ مكانه، فيتبادلا الملابس ليخرج السجين متنكراً ويبقى القاضي (فيراتا) يتجرّع هول السياط والظلمات.
التصنيف الوجودي
كل تلك المشاق التي واجهها في غيابته، لم تمسح عن خَلَدِه عين أخ معلقة في السؤال، لا تموت ولا تعود إلى الحياة، فيهجر أيّة فكرة تخصّ مصائر الخلق وأقدار حياتهم، مجرِّباً العزلة والزهد بمغانم الحياة ورفعتها قصد النسيان، حتى جلّ ما به عن كل سلوى، ليعاني ما عاناه؛ فجائع وخذلان سنوات وعمراً مديداً كابد فيه التعب والنَصَب، ليبقى وحيداً منتبذاً حتى الممات، إلا من عيني أخ لا يموت.
ويوم دخل (فيراتا) الحكيم السجن بدلاً عن جريمة مماثلة لقاتل آخر، كان يريد أن يضع نفسه في التصنيف الوجودي للرحمة؛ إذ “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق” – كما يوجز إمام البلاغة – ففي الحالتين أنت منتم لكينونتك الإنسانية الأهم.
“مجزرة تكريت”
تلك الإنسانية أعادت إلى مواجعي يوم أمس “عينا أخ لا يموت”، لا أعرف اسمه، ولكن التفاتته المتسائلة الأخيرة قبيل أن يقتلوه مظلوماً، صارت تمثل لي بكل سبيل، وأريد لأنسى ذكرها ولكن هيهات. عينا أخ من ضحايا “مجزرة تكريت” أمس أرسلها رسماً لي الفنان محمد عبد الوصي ناطقة صارخة، تعكس حقد القتلة. التفاتة قالت كل شيء، وهي تروي عن فتى سيبقى يذكرهم ويلعنهم، عبر تلك اليد المتسائلة والنظرة الأبدية المثول.. نظرة تبحث عمن يثمنها بعدل، حتى كأنها ستقول لله كلّ شيء غداً.. لذا فهي عندي نظرة “لا أطمع أن أراها إلا في الأبدية” كما يقول جبران خليل جبران.
1700شهيد أعزل
ذلك الفتى لم يبلغ العشرين بعد، وقيل كان وحيد أم دفعته بالفقر إلى الجندية، حتى تآمر حاقدون فقتلوه ضمن من أعدموا صبراً في “مجزرة تكريت”، في سابقة تاريخية تستحق الذِكر كل يوم، راح ضحيتها 1700 شهيد أعزل من طلبة القوة الجوية العراقية بمنطقة القصور الرئاسية بمدينة تكريت في اعتداء إجرامي مشين ” تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ” لكنَّهم فعلوه.
لوحة الفنان محمد عبد الوصي ذكَّرتني بأشهر لوحة في العالم بعد لوحة المونوليزا الشهيرة؛ لوحة الصرخة للفنان النرويجي مونك، التي رسم نسختها الأولى سنة 1893 وعدّت من يومها رمزاً تعبيرياً دالاً على التجسيد الأحدث للقلق، وبيعت بمزاد دولي سنة 2012 ب 119 مليون دولار، ومع هذا وجدتُ (لقلق شخصي لا تحصيه كل المدرسة التعبيرية) أن لوحة الفنان الوصي أهم منها عندي الآن، لما تضمره من دلالات وتاريخ ووقع ملحمي تبرزه الحكاية، سيأتي ذات يوم من يكتشفها ليثمّن ثيمتها.
القتلة في أوروبا
مجرمو المجزرة البشعة – وقيل إنّ بعضهم شوهد في أوروبا – ترى هل سيرقى إلى ناظر واحد منهم يوماً استذكار تلك الالتفاتة والإيماءة وعينا أخ لا يموت، بل عيون وعيون وعيون تدحرجت في ذلك اليوم الكئيب؟.
هل ستثير تلك الإيماءة والنظرة التي كانت تنشد قليلاً من الوقت والإصغاء، بمن ينظر اليها بعيون إنسانيته.. هل ستثير فيه قلقاً وكآبة تلهم الخير؟.
الفنان النرويجي مونك رسم لوحته بعد تجربة نفسية ألهمته، وكتب عن تفاصيلها في مذكراته “كنت أسير في الطريق مع صديقين لي ثم غربت الشمس، فشعرت بمسحة من الكآبة، وفجأة أصبحت السماء حمراء بلون الدم، فتوقفت وانحنيت على سياج بجانب الطريق وقد غلبني إرهاق لا يوصف، ثم نظرت إلى السحب الملتهبة المعلّقة مثل دم وسيف فوق جرف البحر الأزرق المائل إلى السواد في المدينة، استمر صديقاي في سيرهما، لكنّني توقفت هناك ارتعش من الخوف، ثم سمعت صرخة تتردد في الطبيعة بلا نهاية”.
حكاية يوسف
ربما سيأتي يوم تكتشف فيه مدرسة أخرى للفن، من يدري!..تسجل بدء مشوارها، من يوم “إيماءة” الفتى المغدور، وسيضع أهل اللغة لتلك الإيماءة مصطلحاً جديداً يضاهي مصطلح “أُتِيتَ أيها الرجل” في الإشارة إلى اقتراب العدو، أو دنو الأجل.
ومدارس أدبية تشير إلى أسماء هؤلاء وتحكي لنا عن حكاية يوسف آخر ضاع لخمس سنوات، لكنه لم يعد إلا شهيداً.. جارنا الطيب ابن الأكرمين (يوسف باسم حسن المحنه). أمس وأنا استذكره اتصلت بيوسف ثالث أحدثه بما ألقى وما أجد، فبكى لأن ابنه الشهيد علي يوسف المحمداوي رحل بعد يوم واحد من ذكراهم وكأنَّه يريد أن يكون معهم.
إيماءة الفتى ستروي كلّ هذه الحكايا، عن قتلة فات أمر القصاص منهم، ولم تعد من وسيلة “للثأر إلا بالإبداع” كما كان يطيب للشاعر كمال سبتي، في حديثه عن اليأس حيال الموت وصمت “شعراء كذابين ما قالوا يوماً..”.
لو كان حاضراً الساعة لقال: يا فتى ربَّ ريث يعقب فوتاً.. حكمة صحيحة ولكن لتعلم أن أوان المبدع أبداً. وسيشير بيد من نور إلى لوحة الوصي، قائلاً: تلك اللوحة من الرسم الجديد “والرسم من الفنون الشعرية”.. ولأنَّ اللغة ضيقة يا فتى وثمة مفردة أوسع من الثأر، بها سينتصر الإبداع، سيأتي يومها لتشرق فيه.. سيأتي ذلك اليوم.
الأفق غياب في لوحة الفنان الوصي، بينما ملامح الفتى تذوب في هول دائرة أفجع مما أراد فنان لوحة (الصرخة).. دائرة بعيدة، أبعد من تكريت، وما أدراك ما هي؟. ولو أن الشاعر (كزار بن حنتوش) كان نديمنا لصاح:” ما عامورا وسدوم” ما قيمة اسم امرأة فارسية الأصل لتسمى به تلك المدينة بعد ما جرى فيها من فظائع، وبعد تلك الفاجعة، أي اسم يا ترى تستحق اليوم؟، وهل كانت التسميات حصراً على الأجداد؟. وقبل أن يجلس من وقفته الغاضبة تلك سيشير برفق إلى “إيماءة الفتى”.. اسماً جديداً للمكان.

النسخة الألكترونية من العدد 362

“أون لآين -5-”