قائمة الكتّاب السومرية

صادق الطريحي/

ما إن تخرجت في كلية الآداب / قسم اللغة العربية، حتى عينت في مكتبة آشور بانيبال، بعنوان (معاون كاتب تحت التدريب) وذلك بعد نجاحي في الامتحان التنافسي في (كتاب القراءة) ـ ليس هو كتاب الكتب ـ الذي أجرته (مكتبة بابل) للمشمولين في التعيين المركزي في المكتبات، في بلاد الرافدين والعالم.

مكتبة.. وملابس فاخرة

حزنت أمي زينو أول الأمر؛ لأنني سأبتعد عنها مسافة مئات الأميال، وظنت أنني سأمتثل لأمرها؛ مستندة إلى المثل السومري (أطع كلام أمك كأنه أمر إلهي) لكنني كنت ماضيا في أمري، ثم تقبلت الأمر بعد أن لحظت أنني ضمن ثلة من الآخرين نجحنا في الامتحان التنافسي، وحصلنا على وظيفة لا يستطيع الحصول عليها إلا الطلبة الأوائل، مشترطة أن لا أتزوج امرأة من آشور، فلا سيدة هناك تشبه إنانا، ثم وعدتني أنها سترسل لي عند كل موسم عبر البريد المسجل زنبيلاً من التمر الكسب، مع ملابس صوفية كي أستطيع أن أتقي برد نينوى القارص، ولم تعلم أن المكتبة توزع على موظفيها كل سنة حزمة من الملابس الفاخرة.

شعبة جديدة.. قائمة جديدة

وصلت المكتبة مساءً وسلمت أوراقي إلى أمينها المناوب، القارئ عاشور نشمي، فدقق الأوراق، وسجل مباشرتي ثم أرشدني إلى غرفة الإقامة في الجناح الملحق بقصر الملك سنحاريب، وفي الصباح قابلت الأمين العام للمكتبة القارئ الأول أدن سين الذي اختبرني شفوياً في تلخيص بعض الأعمال القصصية، وبنائها الفني، وأنساقها الثقافية المضمرة، فأجبته عن أسئلته جميعاً؛ فنسبني إلى قسم (تأريخ الأدب) شعبة (قائمة الكتّاب السومرية) وهي الشعبة التي يرأسها مؤقتاً.

وقائمة الكتّاب السومرية، شعبة جديدة، وقائمة جديدة، غير موجودة مسبقاً، مع أن الكتّاب الرافدينيين كتبوا قائمة الملوك السومرية، وقائمة الملوك البابلية، وقائمة الملوك الآشورية، وقد شاب هذه القوائم غلو كبير في سنوات الحكم، واختفاء أسماء بعض الملوك، وظهور بعض الملوك بشكل تعاقبي، مع تعاصرهم في الحكم، واستندت هذه القوائم إلى حادثة الطوفان كحد فاصل بين زمنين متعاقبين، بوصفها حادثة إلهية.

الأدب والثورة

يتطلب عملي أن أحضر إلى المكتبة مع طلوع الشمس، لإيداع الألواح السابقة في الخزانة، بعد ترقيمها في سجل الاستعارة، ثم تهيئة ألواح الطين الجديدة، بانتظار ما يمليه علي القارئ عاشور النشمي، ثم يراجع القارئ الأول أدن سين ألواحنا المنجزة فيأمر بحفظها، أو تعديلها، وبعد أشهر معدودات لحظ السيد أدن سين أن الألواح التي أنجزها لا تحتاج إلى تصحيح، أو تعديل؛ ولحظ أيضاً مهارتي في تصنيف الأعمال الأدبية على وفق أغراضها الفنية، فطلب مني أن أشترك معهم في قراءة النصوص، ووضع معايير قائمة الكتّاب السومرية، واختيار كتابها.

فتذكرت أن معلمنا الدكتور سعيد عدنان حدثنا في إحدى محاضراته في مدرسة نفر، قائلاً: «بعد تموز 1958 نشأت فكرة في الصحافة الأدبية مفادها؛ أنّ الأدب متخلّف عن الثورة، وأنّ الأدباء لم يلحقوا بها! ثمّ خمدت هذه الفكرة بعد مدة؛ حتى إذا جاء تموز آخر بعد عشر سنين بُعثت الفكرة نفسها من جديد؛ أنّ الثورة متقدّمة على الأدب، وعلى الأدب أن يلحق بها!» وطلب منا أن نناقش هذه القضية.

وكان من رأي حينها، أن دعاة هذا الرأي، يشبهون شخصيتي القصيدة البابلية الحوارية (السيد والعبد) حين يرى العبد أن كل ما يقوله السيد ويفعله صحيحاً برغم تناقضه.

أثر البيئة في الأدب

ومن المفترض أن الأدب متقدم على السياسة والسياسيين، وعليهم أن يلتحقوا به! كما هو الحال عند ونستون تشرشل الذي حصل على نوبل بعد أن ترك السياسة منعزلاً في بيته الريفي، فوافقني الكتّاب الآخرون في الشعبة على هذا الرأي، وقالوا إنهم يودون أن تحتوي القائمة على الكتّاب الذين لم يتأثر أدبهم بالتغييرات السياسية، أو الحزبية، واقترحوا أن يرى القراء الآخرون في هذه القائمة أثر البيئة في الأدب كما رآها الشيخ أمين الخولي في بحثه (مصر في تأريخ البلاغة) «فإذا كان العلم يقرر أثر البيئة فعالاً عنيفاً ينازع الوراثة أثرها، فكيف يريد علماء تأريخ الأدب أن ينسوا أو يهملوا تأثير البيئة؟ وكيف يريدون أن يجعلوا هذه الدنيا العريضة التي حكمها الإسلام وسكنتها العربية بيئة واحدة؟ ذلك ما لا قوة لمنصف عليه»

فاقترحت عليهم اسم محمد خضير وهو الذي دخل ضمن منهج اللغة الانكليزية للدراسة الإعدادية؛ واخترت قصة (التابوت) كمثال مطلق لإدانة الحرب، كيف لا! وهي قصة صامتة، كصمت الحياة عند الحرب، والناس فيها يتكلمون كلاماً غير منطوق، وقد كتبت بعد حرب الأيام الستة، ولكنها صالحة لتصوير كل الحروب السابقة والحاضرة والقادمة، ومازال التابوت لم يصل إلى عنوانه بعد، ومازال «الفراغ وحده يتكئ على الكراسي»

أما التابوت الخاطئ الذي تسلمه والد أحد الجنود في الحرب العراقية الايرانية في قصة حسب الله يحيى (الخوف من الخوف) فقد دفنه وهو يعلم أنه ليس بابنه؛ لأنه فعل مثلما يفعلون، حين يتسلمون أي جثة من أجل الحصول على المنحة المالية، متعللاً «كل شهيد هو ولدي»، وغالباً ما كانت ضحايا الحرب تجارة رابحة للآخرين، وهو ما قالته هذه القصة العابرة للزمن في العام 1988.

وكان من أثر هذه الإضافة أن السيد أدن سين، أمين المكتبة غير عنواني الوظيفي إلى كاتب، وأسند لي مؤقتاً مساعدة السيد عاشور نشمي في تحرير هذه القائمة.

ومن الواضح أن قائمة الكتّاب السومرية ستكون خالصة للأدب وللبيئة، ولا يشوبها أثر السياسة في الأدب.
20ـ25/6/2016