كيف أثرت الأزمات السياسية على الثقافة العراقية؟

استطلاع أجراه: علي السومري /

لم يشهد العراق الحديث، منذ تأسيسه أوائل القرن المنصرم، الاستقرار السياسي، إذ عصفت به الثورات والانقلابات والحروب التي أثرت على مجتمعه بشكل عام، وعلى شريحة المثقفين والفنانين بشكل خاص. وعلى الرغم من هذه الكوارث والفواجع المستمرة حتى هذه اللحظة، لم ينقطع المثقفون عن إنتاج ثقافاتهم الخاصة، سواء أكانت أدباً أم فناً.
اليوم، وبعد أكثر من عقدين على سقوط الطاغية، أصبح اللا استقرار السياسي هو السائد في العراق، وهنا يمكننا أن نتساءل: كيف يتمكن المثقف، الأديب أو المفكر، من تأليف كتبه في خضم هذا الوضع الشائك والمعقد؟ وهل أثرت الأزمات السياسية المعاشة على الواقع الثقافي بمجمله؟ وكيف يمكن له أن ينتج دون الالتفات الى هذه الأزمات؟ بمعنى هل أن لدى هذا الكاتب القدرة على الانفصال عن واقعه لينتج معرفته وأدبه الخاصين؟ وما هي النصائح التي يمكن تقديمها لمن يحاول الكتابة اليوم؟ هذه الأسئلة توجهنا بها إلى عدد من الكُتـّاب، لمعرفة إجاباتهم.
لغة مقعرة
يؤكد الدكتور علي المرهج أن “للأزمات السياسية تأثيراً على عطاء وإبداع المثقف، من حيث النوع لا من حيث الكم، لأن الأزمات قد تخلق عقلاً نقدياً، لكنها لا تسمح بمتابعة المناهج المعاصرة التي تطور آليات النقد بوصفه منهجاً يفتح أفق معرفة (الآخر).” موضحاً أن “هناك مثقفين وكتّاباً في الفكر والفلسفة مستغرقون في الرؤى النظرية والتحذلق اللفظي واللغوي واستخدام لغة مقعرة فاقدة للمعنى والمبنى، وكأنك تقرأ لكاتب أو شاعر منفصل عن الواقع، يعيش أوهامه وعالمه الخيالي.”
مثقف ملتزم
في حين أكد الروائي حسن السلمان عدم إمكانية فصل المبدع عن كونه عنصراً (مثقفا ملتزماً)، أي كائناً معنياً بما يدور حوله من إشكاليات ومتغيرات، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم ثقافية، ولاسيما المتغيرات السياسية، كونها تمس صميم وجود الفرد، مضيفاً: “في النهاية، فإن المبدع موقف ورؤية من الحياة بكل إشكالياتها وقضاياها، إضافة إلى كونهِ كائناً متفاعلاً بالضرورة بسبب بنيته النفسية والوجدانية الحساسة ووعيه المتقدم.”
شخصياتٌ مأزومة
فيما يعتقد الشاعر قاسم سعودي أن (العسكرة الثقافية) هي أهم مرض أصاب الثقافة العراقية منذ مطلع الثمانينيات، وما زال مستمراً حتى اليوم، ولو بشكل أقل، إذ أن هناك عسكرة في كل شيء: حتى في طرق التفكير والذاكرة والعيش، عسكرة تقتحم الحياة بمتواليات الحروب والأزمات والحصارات القاتلة، مضيفاً: “لذلك ازدحمت ذاكرة الإبداع العراقي بالشخصيات المأزومة على صعد الشعر والرواية والمسرح ومختلف الفنون، شخصيات لا تقدم عادة معجزة الحلول، بل تلامس نار الأزمة وفتيل المحنة الثقيل.”
فكرٌ وجداني
وعن قدرة المثقف على إنتاج ثقافته الخاصة في ظل هذه الظروف الشائكة، قال الدكتور علي المرهج: “مشكلتنا في الثقافة العراقية أنها ثقافة يهيمن عليها الفكر الوجداني، من جهة سطوة الفكر الديني، الذي يخاطب الوجدان ويدغدغ العاطفة ويبعد النقد عن فضاءات التداول العام. من جهة أخرى نجد هيمنة الثقافة الشعرية، وهي لغة وجدانية تتحرك في فضاء اللغة والعاطفة أكثر مما تتحرك في فضاء الوعي العقلاني النقدي، ولا أدل على ذلك مما نشاهده اليوم من مهرجانات شعرية على طول البلاد وعرضها.” مبيـّناً أن هذا الأمر، على ما فيه من أخبار عن استقرار ونشاط ثقافيين أدبيين، إلا أننا أحوج ما نكون لتبني مناهج العلوم الاجتماعية والفلسفية والسايكولوجية، كونها علوماً تكشف لنا عن أسباب التراجع الذي نحن فيه.
انتهازيةٌ بغيضة
أما الروائي حسن السلمان، فقد أشار إلى أنه في ظل متغيرات العقد المنصرم وما رافقها من تغييرات سياسية أبرزها الانتفاضة التشرينية، التي كسرت حاجز الصمت والخضوع والخوف وأدت إلى تغييرات، أهمها الانتخابات المبكرة التي جرت مؤخراً، نرى بعض المثقفين يراجعون ذواتهم ويساهمون في الحراك السياسي، مضيفاً: “أعني أولئك المبدعين الذي ظلوا قابعين في رؤاهم الجمالية الصرفة وكأن الإنسان المبدع مجرد أداة جمالية لا علاقة لها بما يدور على أرض الواقع”. وطالب السلمان المثقف الملتزم بالنظر إلى نصهِ بوصفهِ شكلاً جمالياً حاملاً لخطاب، أي حاملاً لهدفٍ أو رسالة، سواء أكان نصاً سردياً أم شعرياً أم نقدياً.
وبيـّن السلمان أنه بخلاف ذلك، سيجد المبدع الذي ينظر إلى نصهِ بوصفه شكلاً بلا خطاب، أي مجرد سياحة ترفيهية، أو نزهة في بلاغيات فارغة، أو مجرد موادٍ للألعاب الذهنية الجافة المجردة التي لا تبتغى من ورائها سوى المتعة واللذة العابرة، سيجد نفسه خارج إطار التاريخ والإسهامة الفعلية في صناعة الحياة الحقّة عبر التفاعل مع كل يجري على خط سيرها، مع (الثورة الدائمة) ضد كل ما يعترض طريق الحياة الحرة من (ألغام) اجتماعية وأنساق ثقافية، زرعها (حراس التخلف)، التي ينخر الفساد والتخلف في دهاليزها المظلمة في أدمغة الناس البسطاء، والابتعاد عن تلك الانتهازية البغيضة التي تجعل من المبدع جسراً لعبور تلك الأفكار المتخلفة والترويج لها من أجل موطئ قدم على خارطة المنافع الرخيصة والابتذال.
أصوات واعية
من جانبه، قال الشاعر قاسم سعودي: “أظن أن المبدع الحقيقي هو من يستطيع أن يعبر فوق الأزمات وينتج منها الكثير من الممرات التي تقوده إلى النجوم، حتى لو على صعيد الشعور الداخلي، إذ أن المثقف الحقيقي هو من يصطدم بتلك الأزمات ويشتبك معها فكرياً ومعرفياً، بمعنى أن الدور الوظيفي يختلف هنا بين (المبدع) و(المثقف)، المثقف الذي عجزت الثقافة العراقية المأزومة أصلا عن إنتاجه.” موضحاً: “لكن وبالرغم من ذلك، فقد ظهر العديد من الأصوات المثقفة الواعية التي تحاول دائما تقليل قسوة ما نحن فيه منذ القدم.”
عالمٌ متغير
وفي سؤال عن النصيحة التي يمكن لهم تقديمها للكـتّاب من أجل استمرار نتاجهم، قال الدكتور علي المرهج: “ليس من طبعي توجيه النصيحة، لأن النصح شكل من أشكال الوعظ، الذي قد يحتاجه الفرد قبل أن يصدره للآخر، لكنني أجد أن حركة الفكر تبدأ من الواقع إلى النظرية لا من النظرية إلى النظرية، ما قد يساعد المثقف والمفكر لمعرفة الوقائع وتسارعها في عالم متغير.”
في حين قال الشاعر قاسم سعودي: “أن يكون المبدع حقيقياً، يفكر بطريقة تجمع بين المرونة، والاحتواء، والشجاعة في التفكير والموقف، رغم جمرة التمرد والجنون التي تلتصق بأفواه المبدعين، ولاسيما من الأصوات الشبابية، وأظن أن المشاريع الخاصة تحتاج إلى الكثير من حب البلاد والكثير من الخصوصية العراقية التي تجعلك مرفوع الرأس بالرغم من البراكين والأشباح وسوء حظ البلاد.”