“محمود درويش بين برهتين”

حربي محسن عبدالله /

هل يُصبح الثوريُ وجودياً؟ سؤالٌ نحاول البحث عن إجابة له بين برهتين تخصان الشاعر محمود درويش الذي غنى للحياة وهو يواجه الموت، الأولى ثورية نضالية والأخرى التي لا يُخَيّبُ فيها ظن العدم. لحظة وجودية دقيقة للذات حين ينطفئ كل ما سواها، أي لحظة مواجهة العدم، أو بتعبير آخر، هي نظرة على الكيفية التي يتم فيها الاتكاء على الفراغ بعد تلاشي الأبعاد.
وعندما تغيب الوجوه والأصوات والرايات، ويغيب ضجيج الآخر وتختفي ملامحه، فتكون الوحدة مع العدم هي المدار الوحيد الذي تدور به الذات ويغرق المعنى في السديم. بمعنى ما إفاقة على موت التاريخ واكتشاف فجائعي للموت الفردي الذي أسدل الستار على سردية البطولة وشعرية الوجود ليشرف منه على نثر العالم وسديمه. عندها لم يعد التاريخ صراعاً جدلياً ولم يعد مقاومة ملحمية بل عنفاً يفتقد إلى الغاية. وهنا ينتصر مكبث على ماركس. يقول درويش بنبرة حادة في قصيدة “لا تعتذر عما فعلت” (لاتكتب التاريخ شعراً، فالسلاح هو المؤرخ) مشيراً إلى أن معنى التاريخ هجر مخدع العقل وألق الملحميات ليجد ينبوعه في النثر في أتون القوة التي صنعته وكتبته. هنا غابت في البعيد كل شعارات الأمس وضجيجها وأعراس الهتافات وكليشيهات المزايدات الآيديولوجية، التي هي نعاس الثقافة، وتلاشى خطباء منابرها. فقد “أنضجتْ الحكمة صورة الشاعر وجعلته أكثر تخلصاً من فضيحة السقوط في الجماعي، هنا اكتشف محمود درويش ذاته الفردية، مطلاً منها على هشاشة الحياة ومدركاً أنها لا يمكن أن تكون إلا كسفينة نوح في غمرة الطوفان القادم أبداً، كما يقول الناقد أحمد دلباني. ويؤكد أن درويش كان شديد الانتباه إلى صخب العالم ورهانات المعنى ودلالات الأشياء الكامنة. فهو شديد الانفتاح على كونية الجرح والمنفى وصراع الإنسان الأبدي مع آلهة الظلام في الرحلة القاسية إلى جزر الضوء. وبعد أن كان درويش يرى أن تراجيديا الشعب الفلسطيني الشريد لا تتطلب نجدة السماء ولا إسعاف الآلهة، وإنما النضال البشري الذي هو انخراط في تصحيح وجهة التاريخ الذي يكتنز حتماً تباشير الخلاص من كل أشكال الاغتراب والاستلاب والهيمنة. فإذا هو يصطدم بأن هذا الوعي الثوري التقدمي لم يكن بمنأى عن مآزق اللحظة التاريخية ومهاويها. فقد فغرتْ العدمية فاهاً على خرائب الرؤية الإيجابية للتاريخ، وخفت وطأة التفاؤل الذي أثقل كاهل أصحاب الغنائيات الثورية… وبين هاتين البرهتين ثمة تراكمات كمية، وطفرات نوعية، وحياة حافلة، ومحطات وانعطافات حادة، لم يضيّع فيها شاعرنا بوصلته النضالية، ولا أدار ظهره لشجرة الحياة الخضراء.
نقلب هنا صفحات كتاب “الطروادي الأخير – حوارات مع محمود درويش” من تقديم وتحرير سعيد البرغوثي، وكتب خاتمته الناقد الدكتور فيصل دراج، وقد صدر مؤخراً عن دار كنعان في دمشق. وبين التقديم والخاتمة رحلة متعددة المحطات تتجاوز صفحاتها الخمسمئة من الصفحات الشيقة بحواراتها، منذ البدايات الأولى للشاعر حتى أيامه الأخيرة. بالتالي هي ضوء يلقى على ما خفي على القراء، الذين يعرفون درويش الشاعر أكثر من أن يعرفوا درويش الإنسان. محطات متعددة في لقاءات متنوعة وحوارات، متابعدة في الزمن، ممتدة من الستينات من القرن الماضي حتى نهاية رحلة درويش في الحياة، مع العديد من النقاد والكتاب على صفحات صحف ومجلات ولقاءات مباشرة مع الجمهور: “في الحوارات الصحفية، على خلاف الشعر المشغول بأناة وصبر قاطع الألماس، تتجلى براءة اللحظة وعفويتها، وهمّها السياسي بالإضافة إلى سجالية الفكرة، كاشفة عن شاعر مفعم بالثقافة ومشبع برغبة الحياة. وهي عبر سياقها الزمني المتدرّج خريطة من خرائط الوعي الفلسطيني، في حركتها المتطوّرة والملازمة لهذا الهمّ الثوري والإنساني الذي عاشه درويش بكل تفاصيله شعراً ونثراً ونضالاً”، كما جاء في تقديم سعيد برغوثي.
في حواره لمجلة الطريق مع محمد دكروب يتحدث درويش عن طفولته قائلاً: “أضع أمامكم طفولتي، لا لأني أنتمي إلى الذين يعاملون مرحلة الطفولة على أنها العنصر الحاسم الذي يحدّد اتجاه الشاعر، ولكن الطفولة، في مثل حالتنا، اكتسبت ميزة خاصة وستساعدنا ولو قليلاً، على فهم هذه الصلة التلقائية المبكرة بين الخاص والعام. إن طفولتي هي بداية مأساتي الخاصة التي ولدتْ مع بداية مأساة شعب كامل. لقد وضعت هذه الطفولة في النار، في الخيمة، في المنفى، مرة واحدة وبلا مبرر تتمكن من استيعابه، ووجدت نفسها فجأة تعامل معاملة الرجال ذوي القدرة على التحمل ولا تُستثنى من مصيرهم”. فمنذ الليلة التي انطلق فيها الرصاص في صيف 1948 في سماء قريته الهادئة (البروة)، انقلبت الصفة الخاصة لعالم الطفولة، وأصبح الطفل محروماً من الأشياء واللغة التي تميّزه عن الكبار. منذ تلك الليلة التصقت بذهنه وعاطفته كلمات جديدة صار يعرف أنها مصيرية، كان يتأمل هذه الكلمات: الحدود، اللاجئون، الاحتلال، وكالة الغوث، الصليب الأحمر، الجريدة ، الراديو، العودة وفلسطين. ومن هنا يقول: “إن الموهبة الأولى التي قادتني إلى الشعر كانت موهبة التأمل، بمعنى أنها أوصلتني إلى الارتباط المرهق بهموم الكلمات الجديدة وسط جو كثيف من الغربة، فعمقت إحساسي بالسبب والشكوى”. وفي حواره مع باتريس بارت لجريدة اللوموند الفرنسية يسأله محاوره قائلاً: “أصدقاؤك يصفونك بأنك شخصية تحب العزلة، لا يُمكن الإمساك بها..أنت متهرب لماذا؟” فيجيب درويش: السبب الأساسي هو شدة قلقي، ونفاد صبري. وفي هذا المجال فإنني لا أملك من صفات الأغنياء سوى الضجر. السبب العميق هو الارتباك والقلق، ما يجعلني لا ارتبط ارتباطاً حقيقياً في أي مكان في العالم”.
عندما يُسال درويش متى تكتب؟ يقول: “أنا لا أحب الشعر، أفضّل الرواية، عندما أشعر بدافع داخلي يدفعني لكتابة الشعر أشعر بالمرض، فأنا اكتب فقط لأشفي نفسي من مرض، إن الكتابة نوع من العلاج. والشعر هو (ذات) حياتي وجوهرها، ولكنه ليس جديّا، إنه لعبة، إنه انفجار فوضوي. إنني أفضل الحياة على الشعر. الشعر يتجلّى في القصيدة ولكن الشعر المطلق لا يتوفر إلا في الحياة، في اللقاءات والعلاقات بين الطبيعة والحياة الإنسانية.. وفي نقاش عاصف، إنه يوجد في الشيء وفي المكان غير الشعري. رفضي للنمطية الشعرية هو رفض واعٍ، فأنا أرفض أن اكون مريداً أو معلماً أو صاحب مدرسة شعرية..لا أريد ان أكون أسيراً لنظرية تتعرض للمفاجأة في كل لحظة من لحظات الحياة. فالمدرسة الشعرية لا تخلق قصيدة، ولكن أية قصيدة يمكن أن تخلق مدرسة شعرية”.
وقبل أن يتحدث عن نقلة، من الانتماء إلى الواقعية نحو الرمزية يسأل نفسه قائلاً: “هل أنا شاعر غامض؟” فيقول: “إن الرمز هو الذي يخلق مثل هذا الانطباع الأولي، فالقصيدة الحديثة لا تستسلم للقارئ من أول لقاء. كان القاموس قادراً – إلى حد بعيد – على فك أسرار وأزرار القصيدة القديمة، أما القصيدة الحديثة فهي أكثر تعقيداً وتركيباً وتشكيلاً نتيجة تعقد الحياة نفسها. الحياة المعاصرة لا تسمح لنا بأخذ أي مظهر من مظاهرها بكل بساطة وسذاجة. والتناقضات صارت أكثر انفجاراً وتداخلاً… لكن هل يكون الغموض هو أحد هذه الأساليب الفنية الجديدة؟ كلا. إنه ينتج عنها”. ولذكر الرمز والغموض نتوقف قليلاً لرأي درويش بالشعر الصوفي.
في حوار درويش مع عبده وازن لجريدة الحياة اللندنية، ثمة سؤال عن الشعر الصوفي وهل يقرأه شاعرنا؟ كانت إجابة درويش كالتالي: “قرأت الأدب الصوفي، وأقرأه. وملاحظتي أنَّ الشعر ليس أفضل ما فيه، بل النص النثري. مثلاً ابن عربي، نصه النثري أغنى كثيراً من نصه الشعري، ومملوء بالدلالات، بل هو حافل بالألغاز والأسرار أكثر من شعره. لا أنظر إلى الصوفية نظرة فكرية او فلسفية، أنظر إليها نظرة شعرية من حيث هي مغامرة الذهاب إلى الأقصى، ومحاولة اتصال مختلفة بالكون، ومحاولة بحث عمّا وراء هذا الكون، وما وراء الطبيعة، وعن الأسئلة الوجودية. ولا يعنيني في التجربة الصوفية معناها مقدار ما يعنيني سعيها اللغوي والعرفاني في بلوغ ما لا تبلغه المغامرات الأخرى. فهي مغامرة أدبية جعلت النثر أرقى من الشعر في الكتابة. وإذا أردنا أن نبحث عن المصادر الحقيقية التي أثرت قصيدة النثر، نجد الكتابة الصوفية النثرية مثل ما كتبه النفري، والبسطامي، والسهروردي، وابن عربي. وهؤلاء كانوا شعراء من نوع آخر، أي بما يحملون من شحنات للسفر إلى أبعد ما يمكن. ونحن لا نستطيع أن نذهب إلى ما ذهب هؤلاء إليه. هذا هو الجانب الإبداعي في الصوفية، ولكن هناك صوفية تشبه الشعر والشعوذة”.
ختاماً، الكتاب غير قابل للاختزال أو الاختصار لكي لا نبخس حق أحد ممن شغله محمود دوريش الإنسان والشاعر والتجربة، وذهب إليه ليحاوره ويناقشه ويجادله بل ويستفزه. يحوي الكتاب على الكثير والكثير ممن يحتاجه من يهتم بالشعر أو بالسيرة الذاتية لشاعر شغل العدو والصديق، المتعاطف والناقم.