مسرح بغداد.. من مكان يضج بالبهجة والأضواء الى مكبٍّ للنفايات !

محسن ابراهيم /

حين تمر في شوارع بغداد، لابد أن تعرج بك قدماك الى أماكن كانت تتنفس الثقافة والفن، وتحلّق بأجنحة من نور في مساءات بغداد الجميلة، أماكن كنت ترتشف من زادها الروحي, مسرحاً وموسيقى وغناءً وسينما, لكنك تفاجأ أن الغبار يملؤها والريح تصرخ في فراغها,تستند الى جدار الصمت والحيرة, متشبثاً بزمن جميل, يثير الأسئلة, فهنا كان مسرح، وهنا كان الممثلون يتحركون على خشبته بوعي ونضج، ممتلئين بالإقناع وكأنهم محور من محاور الكون, كيف أمسى حطاماً, مكبّاً للنفايات ومأوى للكلاب السائبة, هل دار في ذهن فنانين كبار مبدعين مثل يوسف العاني، خليل شوقي، قاسم محمد، سامي عبدالحميد، جواد الأسدي، وغيرهم، أن يؤول الحال بمسرحهم الى ماهو عليه؟ هل نسينا او تناسينا مقولة (أعطني خبزاً ومسرحاً، أعطيك شعباً مثقفاً)،لتحل محلها معاول الجهل والتخلف وتعبث بكل ماهو جميل.

مشهدٌ مخزٍ

إن شاءت الصدف وقصدت شارع السعدون وسط بغداد ومررت بالشوراع الخلفية لسينما النصر, ستقع عيناك على بناية خربة مليئة بالنفايات والأزبال، ومرتعٍ للعابرين من السكارى والمشردين, سيخيل لك اول مرة أنها مجرد بناية تركت من قبل اهلها وعمل الزمن ماعمل بها, لكن ستصيبك الدهشة حين تعرف أن هذا المكان كان يوماً ما صرحاً بهياً لنشر الثقافة والوعي وقبلة لعشاق المسرح من مشاهدي وطلبة معهد وأكاديمية الفنون الجميلة. أمام هذا المشهد المخزي سيتبادر الى ذهنك السؤال: لما هذا العبث بإرث العراق الفني وأين هم القائمون على الثقافة؟ لمَ لايبادرون الى إحياء هذه الإماكن التي ربما لاتكلف إعادة إعمارها الا النزر اليسير من الميزانيات المنهوبة, كيف لمن تصدى لمسؤولية الثقافة في العراق أن يتغاضى عن هذا المنظر, بعدها ستركن الى الصمت مجدداً، وربما يصيبك اليأس ولاتملك إلا أن تترحم على زمن ولّى.

ورشة فنية

في زقاق من أزقة شارع السعدون، وبالقرب من سينما النصر، يقع مسرح بغداد, وهو في الأصل كنيسٌ لليهود وأصبح فيما بعد مخزناً للتبوغ إلى أن قام المخرج الراحل ابراهيم جلال بتحويله إلى مسرح, ادارة فرقة المسرح الفني الحديث عملت على أن يكون خشبة مسرح لهم ومقراً لإدارة الفرقة. شهد مسرح بغداد ترميماً وتوسيعاً في فترة السبعينات ليتسع لأكثر من ثلاثمئة وخمسين كرسيا، بعد ما كان يستوعب اقل من مئتين وخمسين كرسياً, اليافطة الجميلة التي كتب عليها “مسرح بغداد”، كانت هدية من اهالي كربلاء تثميناً لجهود العاملين فيه. مسرح بغداد كان ورشة فنية بحق، فقد احتضن فرقة المسرح الفني الحديث التي شكلت ملامح الحداثة في المسرح العراقي المعاصر، وشهد عروضاً مسرحية باتت علامة فارقة في الثقافة العراقية مثل: “بغداد الأزل بين الجد والهزل” و”النخلة والجيران” و”المفتاح”, و مسرحيات الراحل يوسف العاني “الشريعة” و”الخان” و”خيط البريسم”، ومسرحيات الكاتب عادل كاظم “تموز يقرع الناقوس” و”الخيط”، ومسرحيات الكاتب اللاتيني ازفالدو دراغون “الرجل الذي صار كلباً” و”مرض أسنان” و”حكاية صديقنا بانجيتو”، ومسرحية شكسبير المشهورة”هاملت” ومسرحية لوركا “بيت برنارد ألبا” ومسرحية مكسيم غوركي “البورجوازي” ومسرحية محمود ذياب “اضبطوا الساعات” ومسرحية جليل القيسي “غيفارا عاد” ومسرحية الفريد فرج “زينة النساء” ومسرحية محيي الدين زنكنة “حكاية صديقين” ورواية غائب طعمة فرمان “القربان” ومسرحية فيصل الياسري “رحلة في الصحون الطائرة”، وغيرها من العروض التي شكلت منحنىً ثقافياً مهماً في تلك الفترة، عمل عليها فنانون كبار مثل خليل شوقي، قاسم محمد، سامي عبد الحميد، جواد الأسدي، روميو يوسف، مقداد عبد الرضا، فاضل خليل. كانت خشبته مختبراً فنياً لتقديم تجارب فنانين كبار، فقد استقبلت خشبته تجارب سامي عبد الحميد، وإبراهيم جلال، وجعفر علي، وجعفر السعدي، وتجربة فاروق فياض الاخراجية الوحيدة. كما أبدع فيه الكثير من الممثلين والممثلات كالراحلتين زينب وزكية خليفة. وعلى خشبة مسرح بغداد أصيبت الممثلة ناهدة الرماح بالعمى وهي تؤدي شخصية “زنوبة” في مسرحية “القربان”، للروائي غائب طعمة فرمان، ومن إخراج فاروق الفياض. كان من الصعب أن تجد مكانا لمشاهدة العروض المسرحية بسبب الإقبال الشديد من قبل العوائل العراقية لما كان يمثله هذا المسرح من ظاهرة ثقافية تغلغلت في أوساط المجتمع.
مسرح بغداد حظي بشرف كبار المثقفين من شعراء وفنانين من أمثال “الجواهري” و”البياتي” و”فيروز” وأسماء كبيرة في عالم الفن والثقافة والسياسة والاجتماع. يكفي أن يكون “جواد سليم” قد صمّم شعاره، و”إسماعيل الشيخلي، وكاظم حيدر ” قد صمما الديكورات والملابس والإضاءة..

دولار واحد يعيد الحياة

عجز الفرقة وروادها عن إحياء المكان، بسبب الإيجارات المتراكمة التي يطالب بها مالك العقار، دعا العديد من الجهات الى اطلاق مبادرات شخصية الهدف منها احياء مسرح بغداد وعودة رونقه الثقافي والمسرحي الى سابق عهده. من هذه الدعوات هي دعوة المخرج المسرحي المغترب فاروق صبري. وللتذكير نعيد نشر دعوته عسى ان تترجم الى واقع ملموس:

(إلى جميع المنظمات والجمعيات الثقافية والفنية في المنافي، إلى جميع العراقيين خارج العراق، إلى الكتّاب والشعراء والمثقفين والفنانين، إلى الهيئة العربية للمسرح في الشارقة، أدعو العراقيين المتواجدين في جميع محطات الغربة الى التبرع بدولار واحد، دولار واحد فقط لكل فرد أو عائلة من أجل ترميم صالة مسرح بغداد.. دولار واحد لإعادة الحياة إلى فرقة المسرح الحديث وعروضها المسرحية المتألقة، دولار واحد لتحقيق أمنية الفنان يوسف العاني في إشعال قناديل مدرسة مسرحية عريقة.. دولار واحد لبناء ثقافة التنوير التي زرعها مسرحيون خلّاقون في صناعة الجمال وبناء الإنسان).