يا صاحب عكاز المتعة ما معنى رحيلك المفاجئ؟!

#خليك_بالبيت

محمد جبير/

حفر القاصّ “محمد علوان جبر” اسمه في خريطة السرد العراقي بجدّ ومثابرة وأصالة والتزام بثوابت جمالية شكّلت خطابه الفني على المستوى الإبداعي “السردي”، أو يا صديقي لم تعد هناك جدوى في الكتابة، فقد تركت أثرك في قلوب محبّيك، وفي ذاكرة القرّاء الذين يتابعون عطاءك الإبداعي، هل تنفع كتابتنا بعد رحيلك؟!
حين نقول إنك أحسنت في سردياتك عن السيد ميم ورحلته العجيبة، دوّنت رحلتك في قصص وروايات، لكن رحلة المتلقّي لم تدوّن بعد مع هذه الإنجازات السردية، كنّا ننتظر الكثير من شحنات المتعة السردية التي تغذّي روحنا وتنعش ذاكرتنا وتزرع فينا الأسئلة الجمالية. قبل الرحيل بيوم واحد تحدثت معك عن الإنجاز القصصي في “تماثيل تمضي.. تماثيل تعود”، وهي المجموعة القصصية الأولى وأسندتها بـ”شرق.. غرب” و” تراتيل العكاز الأخير”، وختمتها مسكاً بـ”الرحلة العجيبة للسيد ميم” بعد ” ذاكرة أرانجا” و “لماذا تكرهين ريمارك”.
الكتابي “المقالي” في الصحف والمجلات، وهو الأمر الذي أكّد ورسّخ شخصيته الإبداعية وحدّد سمات تلك الشخصية لتكون علامة محبة تجمع خيوط المتناقضات في لحظة حبّ إنسانية، إذ لم يكن سلوكه الاجتماعي مختلفاً أو متناقضاً مع سلوكه الثقافي، وإنّما ترجم وعيه الثقافي إلى سلوك حضاري يومي، وهو ما جعله متوازناً ومحباً ومحبوباً من الجميع، ذلك هو صاحب العكاز “أبو دنيا”. في تلك الليلة تحدّثت معه عن رحلة السيد “م.ع.ج” القصصية، وكيف كانت تلك الرحلة ممتعة ومتنوعة على الصعيد السردي حتى في السيمياء الخاصّة للعتبات السردية، فقد كانت “تماثيل تمضي.. تماثيل تعود”، في حينها تحمل دلالات خاصّة تؤرخ مرحلة معيشية وظرفية خطرة في أن تكون كاتبا مضادّاً أو متقاطعاً مع توجّهات السلطة، إذ إنّ السيد ميم جمع نصوصه وطبعها “كتاب استنساخ” أيام الحصار في تسعينيات القرن الماضي، وكانت تلك مغامرة إبداعية لابدّ منها في إثبات الوجود الإبداعي على الرغم من خطورة تلك المغامرة.
كانت تلك التماثيل مزروعة في العشّار، والقاصّ الجندي ينظر إلى تلك التماثيل وعينه تذهب إلى تمثال السيّاب حيث يستظلّ بظلّه، ويفكّر بجمالية المشهد الإنساني الذي يحلم به بعيدا عن تماثيل العشّار، لكن هاجس المطاردة والاعتقال يلاحقه في رحلته العجيبة، وملفّه الأمني يطارده أينما رحل، حتى أنّ حياته صارت أشبه برزمة أوراق وحفنة تواقيع مختلفة الألوان، وتنعكس تلك الألوان لتؤشّر اختلاف سردياته النصّية السردية والمقالية، فتارة يكتب عن أصدقائه الجنود، من عاش ومن رحل، أو عمّن مازال يحتفظ بعكازه الأخير، وتارة تبرز أمامه صورة الطفل الصغير الذي لم تغادر ذاكرته صورة اعتقال الأب في قصة “انقلاب” من المجموعة ذاتها، أو ما يكتبه من مقالات عن رفاق أحبّهم رحلوا ليلتحق بهم أخيراً.
كنت أتحدث معه عن تلك القصص وهو يجاهد معي في أن نتحدّث عن الروايات، ولاسيما “لماذا تكرهين ريمارك” التي أهداني نسختها في بيروت أيام حضورنا معرض الكتاب هناك، كانت تلك الرواية هاجسه الآني، إذ كتبها عن تلك الأيام التي عاشها في بيروت في السبعينيات من القرن الماضي، وهي ليست رواية سيرة، وإنّما طُعّمت بتفاصيل كثيرة منها، فهو يجيد صنعة التطعيم الجمالي الذاتي بما هو مختلق ومبتكر في عملية إجرائية سردية لتعشيق الحياتي والذاتي، وهو الأمر الذي برع فيه في تجربته السردية الروائية الأولى “ذاكرة أرانجا”.
“- لا أعرف من أنا.
– بدأت تكذب.. أيها المترهل…!”. (ذاكرة أرانجا ص5).
يذهب المتلقّي مع السارد في رحلة نبش الحاضر والماضي، وهو يدور في فلك ثنائيته التي زرعها في الاستهلال الذي يشكّكه بكلّ ما سيأتي من حكايات سردية، ألا وهي ثنائية “الكذب والصدق” مما يستدعي المزيد من الحفريات النصية وتفكيك تلك الحكايات بغية البحث أو عزل الحكايات التاريخية بين ما هو مختلق أو حقيقي وما بين الواقعي والمتخيّل في سرديات ذلك النصّ، وهو الأمر ذاته الذي تبنّاه “محمد علوان جبر” في تجربته السردية الثانية “لماذا تكرهين ريمارك” التي وثّق فيها جانباً من رحلة السيد ميم النضالية في البحث عن الحرية والوجود الإنساني بعيدا عن كلّ ما يشوّه تلك الصورة أو يلوّث جمالياته الخاصة في الحياة والإبداع، وكلما ابتعدت في الحديث عن تلك القصص يعود للحديث عن الرواية ويُفيض في الحديث عن تجربته الروائية الثالثة التي أوشك على وضع اللمسات الأخيرة فيها.

النسخة الألكترونية من العدد 360

“أون لآين -3-”