عادل مكي /
الإنشاد الديني نسمات روحانية عبقة انتشرت عبر حقبنا الزمنية المرتبطة بتاريخنا الإسلامي، ومن جانبه الروحي تحديداً، فقد أجمع المؤرخون أن بدايته كانت منذ زمن الرسول الأكرم (عليه أتم الصلاة والتسليم)، إذ تؤكد كتب التاريخ أن البداية كانت مع الأذان حين كان بلال الحبشي يجوده ويرتله ترتيلا.
من هنا جاءت فكرة تأثير تلك الأصوات البشرية التي تتغنى بالقصائد الخاصة في مدح سيد الخلق أجمعين، وتطور الأمر وأصبحت له قواعد لحنية وطرائق مختلفة ومتعددة.
ففي عهد الأمويين أصبحت له قوالب وضوابط وإيقاعات خاصه به، كذلك في عهد الخليفة العباسي الواثق الذي احتضن في قصرة إسحاق وإبراهيم الموصلي اللذين اشتهرا بذلك الإنشاد والغناء الصوفي، حتى جاء عهد الفاطميين الذين أقاموا أول احتفال برأس السنة الهجرية وليلة الإسراء والمعراج وأول شعبان ونصفه وغرة رمضان ويوم الفطر ويوم النحر ومولد الإمام علي وولديه الحسن والحسين عليهم السلام، الأمر الذي شجع المنشدين على التطوير والابتكار، وكان الدراويش من أتباع جلال الدين الرومي من أشهر وأهم المنشدين الى يومنا هذا.
ولا يمكن التطرق الى الإنشاد إلا بذكر الإنشاد الصوفي، بعد أن تعددت المقامات والأنغام بأشكال عديدة ومتنوعة، لأنه ينقلك من خانة التطريب الى خانة التأثير والتعبير بأفخم الأصوات التي تمتاز بالعذوبة والرقة والأداء الحسن، فمنذ أن نظم الشاعر (حسان بن ثابت) قصائده المدائحية، توالى الكثير من تلك القصائد التي يصعب حصرها، وأهمها قصيدة (البردة) للبوصيري التي أداها الكثير من المنشدين والمدّاحين.
وبعد ظهور الإسطوانات التسجيلية صار لزاماً أن نشهد حالة من التطور في مرحلة جديدة من التوثيق والأرشفة الصوتية للمدائح النبوية والإنشاد الديني، ثم فتحت الاذاعة المصرية في مصر لنشهد انعطافة جديدة أسهم فيها سيد درويش وزكريا أحمد وسيد شطّا ومحمد إسماعيل في ذلك البوح والتجلي المحمدي. ثم جاء دور سيدة الغناء العربي أم كلثوم بتقديم أهم وأعظم القصائد مثل (سلوا قلبي) و(نهج البردة) و(ولد الهدى) للشاعر أحمد شوقي وبإمضاء الملحن رياض السنباطي، حين شكل الإنشاد الديني والغناء الصوفي عاملين مهمين في رفد حركة الموسيقى الدينية العربية.
تلتها تلك اللحظة التاريخية المهمة عندما قرر الرئيس المصري أنور السادات جمع قطبين متناقضين هما بليغ حمدي والشيخ سيد النقشبندي عندما قال “احبسوا النقشبندي وبليغ”، فبعد حرب أكتوبر 1973 أمر السادات بليغ حمدي قائلاً له “عاوز اسمعك مع النقشبندي”، لذا كلف وجدي الحكيم بتلك المهمة المستحيلة بفتح ستديو الإذاعة لهما، وعندما علم النقشبندي تردد كثيراً لأنه سيجتمع مع بليغ صاحب (الألحان الراقصة)، المتناقض مع أسلوبه وتوجهه المحدد من الأنغام والمقامات، أو في طريقته الخاصة في أداء تلك الابتهالات دون وجود لحني فيها، معتقداً أنه بناءً على ذلك فإن اللحن المموسق سيفسد حالة الخشوع في الابتهال الديني، رغم محاولات بليغ إقناعه بضرورة الثقة به وبأنه سيعمل له منجزاً لحنياً سيخلده تاريخياً.
لم يقتنع النقشبندي بكلام بليغ، وبعد نقاشات كثيرة اتفق مع وجدي الحكيم بالذهاب معاً الى بليغ لمتابعة وسماع ما أنجز، وإن وجد اللحن كما يريد فإنه سينزع عمامته، وإن كان غير ذلك فإنه سيبقيها دلالة على عدم الاقتناع والرضا. وكانت المفاجأة حين دخوله الإذاعة وسماعه اللحن، فإذا بالنقشبندي يخلع عمامته والجبّة والقفطان قائلاً لوجدي الحكيم “ده بليغ اتجنن”، لتخرج بعدها الى أسماعنا الرائعة التي لن يكررها الزمان، وهي (مولاي إني ببابك) ومجموعة مميزة مازالت تحتل وجدان الإبداع والجمال.
أما فيما يخصنا في العراق، فتؤكد كتب التاريخ أن التراتيل الدينية كانت معروفة في حضارة وادي الرافدين قبل سبعة آلاف سنة، وأنها هي من دلت علماء الآثار والمهتمين والمختصين على أهم ممارسات وسلوكيات الإنسان العراقي القديم، كما فتحت لهم رموز الاعتقادات الأولية. ولأننا شعب يحب الحياة -وتلك ميزة نمتاز بها عن غيرنا- تأسست في العراق فرقة الموشحات العراقية عام 1947على يد الموسيقار روحي الخماش، وتحديداً في اذاعة بغداد العريقة، التي استعانت بجهود الفنان السوري الحلبي عازف الناي الشهير الشيخ علي الدرويش (الذي كان في عامه الثمانين) بتأسيس أول وأعرق فرقة إنشاد عراقية بامتياز اهتمت بتحفيظ الموشحات الأندلسية والابتهالات الدينية، التي تسلم زمامها روحي الخماش بعد رجوع الشيخ علي الدرويش الى حلب، فقام بمهمة التدريب والتحفيظ، وكانت الفرقة تضم أهم الاسماء الفنية مثل ناظم الغزالي وجميل ومنير بشير وغانم حداد.
وفي نهاية الستينيات انطلقت الفرقة من جديد، وفي عام 1971 سميت باسم (فرقة الإنشاد العراقية) التي قامت بتسجيل وغناء أشهر الابتهالات الدينية مثل ابتهال (يا إله الكون إنا لك صمنا) و(لما بدا يتثنى) وموشحات وابتهالات دينية متعددة وكثيرة.
وفي عام 1985 خلال الحرب العراقية الإيرانية صار فرضاً على تلك الفرقة أن تؤدي أغاني وأناشيد الحرب، الأمر الذي تعارض مع رسالتها الفنية وأهداف تأسيسها بحفظ التراث والموروث التراثي الغنائي العراقي بإداء أغاني الحرب التي أثرت سلباً على نفسية روحي الخماش الذي فضل الابتعاد معززاً، وهو الأمر الذي أدى مستقبلاً الى انفراط عقد هذه الفرقة العتيدة، فتوقف عملها رسمياً بعد أن أغنت المكتبة الصوتية بقرابة ألف موشح وابتهال، وأغانٍ عراقية تراثية بحتة. لتترك لنا مكتبة موسيقية وإرثاً فنياً لا يمكن الاستهانة به أو تغييبه للأجيال القادمة ولتاريخ الفن الموسيقى والإنشادي العراقي.