سعد يونس حسين/
إن سفر الكاتب مفعم بالإنجازات ومتوج بالنجاحات وشغل مناصب عديدة تصب في خدمة الفن، والمسرح بصورة خاصة، مع صولات له في التأليف والإخراج، ومنها الثلاثية الشكسبيرية (أنا مكبث)، و(شكسبير في جبل الأوليمب)، و(أجنّة في أرحام شكسبيرية)، ومسرحية (مأدبة على شرف الشيطان) التي فازت بالمركز الأول في مسابقة التأليف عن وزارة الثقافة لسنة 2022، وكذلك (الحالمون) التي فازت بالمركز الأول في مهرجان السلام العربي الدولي بدورته السابعة عشرة سنة 2022.
“العزف على النوى”
هي إحدى مسرحيات كتاب (مسرحيات مهاجرة)، وفيها استخدم الكاتب التشبيه والرموز التي لها بعد عميق تتجلى للقارئ لو أنها قرئت بعناية، فكانت الموسيقى هي أداته في التعبير عن رؤيته، لأن لغات التفاهم تقاطعت وتناحرت، ولم تبقَ الا لغة الشعوب، الموسيقى، وبعض الأحيان هويتها، فتداخل أصوات الآلات له رمزية. لقد أدخل الكاتب السينوغرافيا وملأ بها فضاء المسرح، إنه يكتب أو يؤلف بعقلية مخرج محترف خبر خفاياها ومطباتها. فكان (الدف)، الدخيل على الآلات، الذي اعتبر نشازاً كما يحدث في الحياة. إن العزف غير المنسق يجعل السامع ينفر ويتوتر، كما أن الأضواء الملونة لها معانٍ وتفسيرات كثيرة، منها المبهج، وفيها ما يثير التوتر. لقد حسم (الدف) هذه الفوضى بضربة واحدة، فكان له الأمر الحاسم .
الدف الرمز
لقد اعتنى الكاتب ببيئة المكان التي تجري فيها الأحداث، ليقترب من ذهنية المتلقي ويهبه تصوراً فيه الكفاية عما يدور وأين يدور. إنه (الدف – الرمز). لقد اظهره الكاتب وجعله يتفوق على أقرانه من الآلات، إذ ركز الإضاءة عليه، فيما أعطى اضاءة باهتة على بقية الآلات. لقد أرغمهم (الدف) على أن يقبلوه بدفء عزفه، على الرغم من أن بقية الآلات رفضته. إن الانسان الحقيقي، ولاسيما الذي مر بمعاناة وتجارب، وكان جديراً بأن يكون إنساناً، لكن الآخرين لا يتقبلونه. وإن تقبلوه فإنهم يضمرون الكره له. لقد جعل أبطاله الآلات وليس العازفين. إن مسألة الرفض لدى الآلات، التي عبرت عنه بالاهتزاز او إصدار صوت عال، تبين أنه رفض للدخلاء كما يصوره في أذهانهم.
لغة كونية
لقد ضمت المسرحية أول إشارة من خلال النص (الموسيقي)، فجعلها هي المفتاح لحقوق الإنسان، فهي لغة كونية لا يوجد فيها أي نوع من التمييز، سواء العازف او المؤدي. فالموسيقى في الفرح والعلاج، وحتى الموسيقى الجنائزية. إنها تحاكي كل شيء وتتعامل مع الروح وتتفاعل معها، وتأخذ المتلقي إلى حيث لا يستطيع أن يصله في الواقع.
يشير الكاتب: “يجب علينا أن نعزف الألحان حتى لو قامت القيامة في أي بلد نهرب إليه، إنها غذاء الروح وإلهامه، لقد بلغ سمو المعنى حتى بدأ بتقبل ما يقوله العازفون عن معاناتهم ومنزلة الموسيقى، وما يتمناه ويحلم به، لقد انتقد كل من ناحيته الحياة ومرارتها فاستيقنوا أنه حتى لو فسدت الحياة ولم يبقَ لي نفس رغم الحروب.”
لقد أبحر بنا (المؤلف) الى شواطئ مرافئها تغلــي، فجعلها تهاجر معه الى حيث جهة (الشمس)، حيث الإضاءة والوضوح والتعبير عن الذات، وقبول الآخر، وعدم التمييز بكل أشكاله. إنه ينشد اللحمة. إن (العزف على النوى) انما هو عزف على أوتار الحياة، فتكاملت عناصر المسرحية. لقد ركز الكاتب على الإضاءة الباهتة على الآلات، الكمان والتشيللو.. الخ، عدا (الدف)، فإن له مقامة الانتظار، لذا خصّه بالإضاءة، الوجود.
ثم انتقل بنا الى موضوعة الانتظار، وأشار فقط الى أن (الدفوف) وحدها من ينتظر الخلاص، أما الآلات الباقية فإنها ترفض ذلك، كما يحدث في الحياة حين تتكالب الأمور على أحدهم ومحاولة نبذه دون أن يفهموه. لقد كانت العنصرية والتفرقة واضحة حين قال “انت لتعلم بأنه ليس مرحباً بك في الحين القريب الخاطئ “.
تختم المسرحية بعزف متناغم لا متناحر بين (الدف) والآلات الأخرى. إنها النتيجة النهائية لكوننا نعيش إنسانياً لا عنصرياً. لقد عالج الكاتب المبدع قضايا المجتمع بأسلوب أدبي رائع، وهي قضايا لكل زمان ومكان. هنا أجاد المبدع في (العزف على النوى)، إذ كان (منيراً) في رؤيته، ذواقا في اختياراته، فأدار وقت سفينة مسرحيته المهاجرة بأذرع واثقة، وتغلب على تلاطم المياه والعوائق التي تعترضه في رحلته نحو مرفأ الحياة، فكانت المسرحية انما هي الباقية، والنشاز هو المهاجر، الشخصيات لها تأثير ولها وزنها في الحوار الذي تفرد بالكلمات المنتقاة، فكانوا جميعاً أبطالاً، في مشاركتهم الآلات والسينوغرافيا، إذكان كل فهم له وقع، ولم يبخس الكاتب حق أي منهم، فكانت اللغة تحمل الصفتين الواضحة والسليمة ولها مضامين.
قد يبدو للوهلة الأولى أنه نص سهل، ولكن مع تقادم القراءة او المشاهدة سيتضح انه عميق يحاكي من تعنيه الإشارات. حين استخدم المؤلف بعض الأدوات والأساليب لخلق التأثير، مثل الجُمل التي لها لمعان في عدة مواضع من النص. لقد أخذ منحى شكسبيرياً في الصراع، وظفه بصورة شديدة اللمعان في أعماله، ولاسيما تلك التي تتناول الصراع على السلطة كما في هاملت. كانت الانتفاضة في نهاية المشهد الأخير شديدة الوضوح بعد مخاض عسير، فكانت الحبكة (البناء القصصي للنص)، وكان التنظيم الشامل لحركة الأبطال، أي أن هناك روابط تعطي لبيئة النص المتانة. هنا قدم لنا الكاتب (منير راضي) عملاً تستطيع أن تقول إنه عالمي تفهمه جميع الشعوب وتشعر به، لأنه حاكى موضوعه وعزف على أوتار يعيش عليها كل الأشخاص في كل دول العالم.