محسن العكيلي/
لا يمكن الولوج إلى عالم الحسين الرحب، عالم السمو والشهادة، كما لا يمكن سبر أغوار هذه الملحمة الإنسانية الرائعة، دون معرفة الحسين، ودون فهم الحسين، إذ يجب الذوبان في بودقة الحسين والسير على هداه. الحسين فكرة تجلت بأروع المعاني الإنسانية، واكتسحت كل المفاهيم الدنيوية.. كيف يمكن أن نوصل فكرة الحسين بصورة بهية.. بعيداً عن المغالاة.
تجسد (التشابيه) الحسينية صورة من صور الإيصال بطريقة فنية ممسرحة أخذت طابعاً فنياً عفوياً.
إن التشابيه الحسينية التي تقدم في أيام محرم ضمن الشعائر الدينية التي تقام في مثل هذه الإيام تعمق ذكرى النهضة الحسينية ومبادئها في نفوس المشاهدين لها، وتبقي صورة الحادثة ماثلة أمام الناس. فمعركة الطف من خلال هذه التشابيه تمسرح بشكل احتفالي ضخم يصل أحياناً إلى تجسيد المأساة بكل تفاصيلها. فهنالك ساحة القتال والفريقان المتحاربان، في جانب الإمام الحسين والجانب الآخر جنود يزيد، وعلى محيط ساحة الحدث تحتشد الجماهير، حيث نجد التأثير والحزن على وجوه الحاضرين. يلبس المؤدون لهذه الأدوار ملابس خاصة بهم، يمتطون الخيول ويحملون الرايات والسيوف، ويلبسون لباس الحرب ويسيرون في موكب عزائي ترافقهم الطبول والأبواق حتى ينتهي هذا العزاء بذكر مصاب هذه الشخصية التي يؤدون دورها على مسامع الحاضرين، لينتهي الموكب بعزاء اللطم وذكر الأشعار التي تؤبن هذه الشخصية المقدسة. لم تأخذ هذه التشابيه البعد المسرحي الكامل، أي أنه لم يقدم حتى الآن عمل مسرحي يتناول واقعة الطف بشكل مفصل.
محاذير وأسباب
هنا لابد من ذكر عدة أسباب، منها أن هناك ما يؤخذ على الفنان العراقي، إذ إنه كان متخوفاً، أو أن هناك محاذير كثيرة كانت تفرضها الحكومات السابقة، وأيضاً ما يمكن أن يسبب حساسية تجاه السلطات السابقة.
طبعاً فإن واقعة الطف، تلك المرجعية العظيمة، عملت واشتغل عليها في معظم مسارح البلدان المجاورة للعراق، لكن علينا أن ننتبه في هذا الوقت تحديداً إلى كيفية الإفادة من هذه التجربة والمرجعية الكبيرة في تقديمها بعرض مسرحي، ولاسيما أن هذه الواقعة قدمت شعبياً ما يسمى بـ (التشابيه)، التي هي شكل من أشكال العرض المسرحي الذي كان يقدم في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، التي كانت تعتمد فقط على الهواة في تقديم الملحمة بشكل فوتوغرافي.
من الممكن أن تكون واقعة الطف ملهمة للكثير من القصص والرؤى، على ألا تخرج عن المتن الحقيقي للواقعة وضرورتها، وأيضا تأثيرها في المجتمع العراقي. وإذا أراد الفن أن يستخرج من الواقعة ما يمكن أن يؤسس لمنظومة عرض مسرحي جمالي متطور، فإن عليه ألا يأخذ من الواقعة شكلها والمتن الحكائي السردي المتعارف عليه، الذي أصبح معروفاً حتى لدى الأطفال، إذ إن الجانب الوجداني العاطفي هو الوحيد المتمسك بمثل هكذا عروض (التشابيه)، وحتى العاملون في مثل هذه العروض يكون لديهم تأثير في الناس، وهو معيار نجاحهم.
مسرح عراقي
المسرح الحسيني، أو ما يطلق عليه (التشابيه)، يعد مسرحاً عراقياً حسينياً بامتياز، إذ إنه يسرد معركة الطف الخالدة، هو فن تراجيدي فطري تحاول من خلاله مجموعة من الناس تجسيد الواقعة التاريخية من خلال تلك التشابيه، كما أن غالبية من يشارك في تلك العروض لم يدرسوا فن التمثيل وتقنيات المسرح، لكنهم بفطرتهم العفوية يحاولون أن يقدموا تراجيديا الطف بإمكانيات بسيطة من خلال ساحة العرض، التي غالباً ما تكون ساحة ترابية يتجمهر حولها المشاهدون، وملابس بسيطة يحاولون من خلال ألوانها أن يميّزوا بين معسكر الإمام الحسين، الذي غالباً ما يرتدي الممثلون فيه ملابس بيضاء أو خضراء، ومعسكر الأعداء الذين يتميّز لباسهم بالألوان الحمراء والمزركشة، وعلى امتداد غالبية المدن العراقية يمارس هذا الطقس خلال شهر محرم الحرام، ولاسيما في اليوم العاشر، ولكل مدينة طقوس خاصة في أداء التشابيه، ففي مدن العراق تقام التشابيه بطرق مختلفة، إذ يجوب الممثلون الشوارع التي تغصّ بالمتفرجين في مثل هذا اليوم، وتتعالى الصيحات والتكبير ممزوجة بالبكاء والدعاء على قتلة الحسين، وفي مدن أخرى تأخذ التشابيه منحى مسرحياً يحاول القائمون على هذا الطقس أن يقربوا إلى المتفرجين واقعة الطف بصورة عفوية، فيقع الاختيار على شخصيات معينة تؤدي أدوار تلك المعركة الفاصلة بين الحق والباطل، ولكل شخصية مقطع خطابي يناسب دورها في واقعة الطف.
وكغيرها من الشعائر الحسينية، تعرّضت التشابيه للمحاربة والمنع، ولو أتيح لهذه الشعيرة أن تقدم وسط أجواء فيها هامش من الحرية لشاهدنا اليوم مسرحاً حسينياً يتمتع بكل تفاصيل العرض المسرحي وتقنياته.