أبو نواس شارع الأدب والفن والذكريات

يوسف الحاج راضي – تصوير: بلال الحسناوي /

نعم… قد أكون منحازا لهذا الشارع الذي كحلته خطواتنا أنا وحبيبتي في موعد فرضته سنوات المراهقة، ولذلك كلما مررت به ألوذ به كعاشق مأسور بمحبته الى حد النخاع متمنيا له وعليه أن لا ينتهي..
إنه شارع أبي نواس، الشاعر المتوفى في بغداد 198 هجرية، وكأنه أخذ من حسين منصور الحلاج قوله:
«والله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وحبك مقرون بأنفاسي
ولا خلوت إلى قوم أحدثهم
إلا وأنت حديثى بين جُلاسي
ولا ذكرتك محزوناً ولا فرحاً
إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش
إلا رأيت خيالاً منك فى الكاس
ولو قدرت على الإتيان جئتكم
سعياً على الوجه أو مشياً على الراس
مالي وللناس كم يلحونني سفهاً
ديني لنفسي ودين الناس للناس»

هكذا هو الشارع الذي تجرّد من أي ديانة، “ابو نواس” الشارع الوحيد في العراق الذي لا يحتوي جامعا او كنيسة أو مرقدا أو معبدا لديانة أخرى سواء كانت يهودية أو مندائية أو إيزيدية، هنا كان يجلس الشاعر عبد الوهاب البياتي على كرسي بباب محل شقيقه الخياط ليخيط من هذا الشارع أجمل قصائده…. وتمتد مع هذا الشارع “الدجلاوي” – نسبة الى نهر دجلة – الذي يرافق الشارع كلصيق له على طول امتداده من جسر الجمهورية الى الجسر المعلق في الكرادة الشرقية، ويوجد في هذا الشارع تمثال للشاعر أبي نواس نحته إزميل الفنان الراحل إسماعيل فتاح الترك في العام 1972، ويوجد فيه نصب آخر لشهرزاد وشهريار للفنان الراحل محمد غني حكمت.
ولا يمكن لأي وفد رسمي أو سائح يأتي لزيارة بغداد ويتجاهل زيارة هذا الشارع الذي كان يعد شارع الأنس والطرب لكثرة مقاهيه ونواديه وحدائقه ومطاعمه والذي يعد الأول في العراق في الأكلة الشعبية الشهيرة (السمك المسكوف) فضلا عن المأكولات الأخرى كالباجة والمشويات (التكة والكباب) والشاي البغدادي على فحم الكراجي، ويصاحب ذلك الشارع الاصوات الغنائية الصادحة من الكازينوهات لأم كلثوم أو لأسياد المقام العراقي أو لصوت بلبل الجنوب داخل حسن وغيرهم من أسياد الطرب.
اتخذته الكثير من العوائل في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مقراً للتنزه في حدائقه الجميلة بل الكثير من العوائل تأتي وهي محملة بالمطبوخات البغدادية اللذيذة لتتناولها بمتنزهات ذلك الشارع وكأنها في سفرة سياحية فتجد أطفالهم يلعبون الكرة او في الأراجيح التي تبنت وجودها أمانة العاصمة آنذاك، بل هناك كازينو مخصص للعوائل فقط مثل كازينو “رأس الخيمة” وتجد الادباء من جميع المشارب في مقاهيه؛ فتجد الاسلامي والشيوعي والبعثي والمستقل يرتاد ذلك الشارع من غير عوائق أو حواجز ايديولوجية، بل تأسست فيه عدة مجاميع أدبية ومنه صدر بيان الشعر في العام 1969 الذي كان من أعضاء ذلك البيان “فاضل العزاوي، سامي مهدي، فوزي كريم، خالد علي مصطفى”.
حظي الشارع بزيارة الكثير من زعماء الدول الاجنبية والعربية ناهيك عن زيارات لأدباء وفنانين كبار كأمثال أدونيس ونزار قباني ومحمد مفتاح الفيتوري ومحمود درويش وغيرهم من الشعراء الذين يحضرون مرابد الشعر في العراق، وزاره العديد من الفنانين العالميين والعرب كالفنان انطوني كوين والراحل نور الشريف؛ هو وعائلته وغيرهم من الفنانين العرب كأم كلثوم ووديع الصافي وغيرهم، توسطت الشارع في حينها معاهد عدة، كالمعهد الفرنسي الذي لا يزال عاملا الى يومنا هذا، وكان هناك ايضا المعهد البريطاني، والمعهد الثقافي الروسي، ومعهد غوته الالماني الذي يوجد الآن في كردستان العراق.
أبو نواس هو الوحيد الذي ينفرد بين الشوارع لكونه كان يحتوي مسرحا تعرض فيه الافلام الاجنبية الحديثة، فضلا عن احتضانه لحفلات غنائية لمطربين كبار من أمثال سعدون جابر وسيتا هاكوبيان وأنوار عبد الوهاب ورضا الخياط ومطربي الريف بمختلف مسمياتهم، وللأسف هجر هذا المسرح بعد العام 2003، ولكن نفخت الروح فيه جماعة تركيب للفنون المعاصرة في العام 2019 وبدعم من معهد غوته الالماني الذي قام بدعم المساهمات الفنية كمعرض تصوير للمصور الألماني فنسنت هيجز، وكذلك عرض للفنانة ساكار سليمان من السليمانية، وأقيم المهرجان من قبل فنانين شباب عراقيين قاموا بصنع خشبة المسرح وكواليسه وجدارياته وأقواسه ومنحوتاته فضلا عن ما تخلل ذلك المهرجان من معزوفات موسيقية.
من حق كل عراقي اليوم أن يتباهى بماض جميل لهذا الشارع الذي فقد سمره وطربه وجماله بعد العام 2003 بعد أن طوقته الحواجز الكونكريتية، ولكنه بقي أبو نواس على الرغم من محاولة الديكتاتور المقبور تغيير اسمه من أبي نواس الى ياسر عرفات أثناء زيارة الزعيم الفلسطيني للشارع.