عامر جليل إبراهيم /
عندما تتجول في منطقة الكسرة فإن أكثر ما يلفت ناظريك ويدهشك هو هذا التباين الكبير بين بيوتها وأزقتها، فترى في جهة بيوتاً عامرة بمساحات واسعة وحدائق غَنّاء، وأخرى تكاد لا توفر لساكنيها “شمَّة” هواء، كما ترى شوارع حديثة واسعة ومعبّدة، وغير بعيد عنها “دربونة” لا تسمح لمتحابَّين أن يتمشّيا جنباً الى جنب، فهذا الشارع عرضه 12 متراً وتلك”الدربونة” عرضها 30 سنتمتراً فقط!
يعدّ هذا الزقاق من أضيق الأزقة في العراق ويقع في مدينة بغداد بضاحية الكسرة في جانب الرصافة، ويعود تاريخه الى بدايات القرن العشرين، وأغلب سكانه من ذوي الدخل المحدود.
بين الكسرة و ريوتلنجن
ينافس “دربوتنا” على لقب أضيق زقاق في العالم زقاق آخر في بلدة قديمة في مدينة ريوتلنجن بألمانيا للدخول الى موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية العالمية. فالزقاق الألماني يوجد بين اثنين من المنازل، يبلغ عرضه في أضيق نقطة 31 سم، وفي أعرض نقطة يبلغ 40 سنتمتراً، ويبلغ طوله 3.8 متر وبُنيَ في عام 1727 م، وفي عام 2007 م أُدرج في موسوعة غينيس للأرقام القياسية بوصفه أضيق شارع في العالم، بينما يبلغ طول “الدربونة” البغدادية نحو 50 متراً وعرضها في أوسع نقطة (40) سنتيمتراً وأضيق نقطة فيها عرضها (30) سنتيمتراً.
الكسرة
تعدّ منطقة الكسرة التي تقع وسط بغداد من المناطق الشعبية القديمة وهي تربط منطقتي الأعظمية والوزيرية. تمتد من شارع “المغرب” إلى شارع “طه”، وتتميّز بكثافة سكانية عالية وسكنتها الكثير من العائلات منذ أكثر من تسعين سنة وتتباين مساحات البيوت فيها بين الكبيرة والصغيرة. وفي زقاق (41) من محلة “302” بنيت بيوت في أرض زراعية بدايات ثلاثينات القرن العشرين بمساحات لا تتجاوز المئة متر وسكنتها عائلات من صغار الكسبة والعمال وما زالوا فيها حتى الآن.
بيوت بلا شبابيك!
“مجلة الشبكة” ذهبت الى هذا الشارع واستطلعت آراء بعض الناس الساكنين فيه والمجاورين له. أول المتحدثين كان المواطن (مهند) الذي يسكن في هذه المنطقة منذ أكثر من أربعين عاماً، وهو من مواليد 1966م، يؤكد أن هذا الزقاق يعاني الإهمال بالرغم من أن أمانة بغداد تسعى لإدخاله ضمن التراث العالمي، تسكن هذا الزقاق الضيق عشر عائلات تحولت حياتهم الى مأساة حقيقية أشبه بالموت، بسبب صعوبة المعيشة هناك، فهم مثلاً يعانون بشدة عند نقل الأثاث إذ ينقلونه عبر الأسطح، أضف إلى ذلك خلوّ البيوت من (الشبابيك) الضرورية لتهوية البيوت العشرة الموجودة في هذا الزقاق.
بيوت رخيصة
(أبو أحمد القصاب) من أهالي المنطقة يقول: لا يمكن العيش في هذا المكان لأن البيوت هنا لا تصلح للسكن وهي مغلقة تماماً، لكن ضيق الحال أجبر ساكنيها الفقراء على استئجارها لأن إيجاراتها رخيصة وشبه رمزية. (سجاد) هو الآخر يسكن في هذا الشارع وفي بيت من بيوتاته سرد لنا معاناة عائلته إذ يقول: نسكن هذا البيت منذ أكثر من ستين عاماً، وهذه البيوت عرصة مالكها من أهالي الكرادة، وكان والدي قد وسّع هذا الشارع عندما جددنا بناء البيت بإعادته الى الخلف أكثر من 10 سنتمترات، لكن حالنا لم يتغير، فما نزال ننقل الأثاث عن طريق أسطح الجيران، وأحياناً نهمل تصليح الأجهزة الكهربائية بسبب صعوبة نقلها والحرج الذي يسببه لنا نقلها عبر الأسطح، فبعض الجيران يتذمر من النقل عبر سطوحهم، فنضطر لتغيير المسار عبر الأفرع والأسطح الخلفية لهذا الشارع ومن مسافات بعيدة. يضيف سجاد: أنا من مواليد 1986م، ورغم المعاناة وصعوبات العيش فأنا وأهلي ننام ونستيقظ فنرى الجدران تحيطنا من الجهات كافة، لكنني أحب العيش في هذا المكان البسيط. يكمل سجاد ضاحكاً: نشترط على ضيفنا الذي يزورنا أن يكون من الأوزان الخفيفة لأن الضيوف أصحاب الكروش لا يمكنهم المرور عبر هذا الزقاق، لكننا تعودنا على هذا المكان والعيش فيه رغم قسوة الظروف، وأذكر عندما توفي والدي أخرجناه ببطانية الى الشارع حتى نكمل مراسم الدفن.