أحمد محسن التميمي /
أغنية عراقيــــة بقيت متميزة وعالقــــــة في أذهـــان النــــــاس لأن في كلماتها تعبيراً عن مقدار محبة الأم ومكانتها. وقصـــة أغنية (غريبة من بعد عينج يا يمه) تبــــدأ عند وفـــاة والـــدة الفنــــانة زهور حسين في أواســــط خمسينات القـــرن الماضـــي، إذ حزنت عليهـــا حزناً شديداً، وبعــــد انتهـــاء الأربعـــين ذهبـــت الى الملحـــن عبـــاس جميــل، وكانت تربطهما علاقــــة صداقـــة قويـــة، وطلبت منه أن يلحن لها أغنية تخلد فيها أمها.
وهنــــا يتذكر الفنان عبــــاس جميــــل أنـــه في عــام 1956 وصلتــه كلمـــات أغنية مؤثـــرة كتبها الشاعــــر عباس العــزاوي، وكانت في الواقــع أغنية وطنيــة يشبّه فيها الوطــن بالأم، وكيف أن الإنسان عندما يهجــر وطنـــه كأنما يترك أمـــه ويصبح بعيداً عن أحضانها، وقد اعتـذر عن تلحينها في حينها لأن موضوع الأغنية لم يكن رائجاً وقتـــها، لكنــه وعـــده بأن يلحنها في يوم ما، فعاد يبحث عنها بين أوراقه القديمة في منزله فعثر عليها في أحد الأدراج، وحالما وجــــدها وقـــرأ كلمات الأغنية وضـــع الجمل اللحنية لها، وعندما تأكـــد بأن الأغنية جاهزة فنيـــاً قرر تقديمها من الإذاعة بصوت الفنانة زهور حسين وعلى الهواء مباشرة، وكانت الفرقة الموسيقية بقيادته ورئاســــة عازف الكمان عبد الكريم بـــدر، وأثنــــاء بث الأغنية حدث موقف طريف، إذ لم تكن الفنانة زهور قد حفظت الأغنية جيـــــداً فكتبتها على ورقـــــــة ومسكتها بيـــــــدها، وعندما بدأت الغناء ووصلت الى الكوبليه الثاني تأثرت كثيراً وبكت وأرادت أن تجفف دموعها، فطارت الورقـــة الى تحت الكرسي الذي يجلس عليه عازف القانون، فذهب الفنان عبـــاس جميل وسحب الكرسـي بعد أن نهض عازف القانون وأخــــذ الورقة وأعطاها لزهور، وعندما أراد عازف القانون الجلوس على الكرسي هوى على الأرض وصرخ عالياً (لقد انكسر القانون) فسمع الناس صوته من الراديو لأن الأغنية كانت تبث مباشرة حتـــى أن البعض اتصل هاتفياً ليقــول (هاي أغنية لو عركة).
زهور حسين
مطربــــة عراقيـــــة تمتلك الإحساس الصادق والقـــدرة الكبـيرة على الحفظ، بصمتُها البحّة والفطرة في الغناء، اسمها الحقيقي زهـــرة عبد الحسين، ولدت في مدينــــة الكاظميــــة ببغداد عام 1924، بدأت مشوارها الفنــــي في المناسبات الاجتماعيـــة ولم تدرس الموسيقــــى أو الطرق الغنائية وذلك لعدم وجود مدارس متخصصة في ذلك الوقت، ولكنها كانت تسمع أشهر قراء المقام العراقي وذلك من خلال زوج والدتهــــا المحب للموسيقى، وهو من انتبه الى جمال صوتها وشجعها على الغناء.
في عام 1938غنــــت أول مـــــرة في مكان عــــــام مقطعاً من قصيدة الشاعر الأحـوص (ألا لا تلمه اليوم أن يتلبدا) والذي يقول
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى
فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
وغنـــــتها على مقام الدشت الذي تميزت به.
عام 1942 دخلت إذاعة بغداد، واستمع إليها الأخوان صالح وداود الكويتي فأعجبهما صوتها وما يتميز به من بحّة جميلة.
عام 1944 قدمـــت أول حفلة غنائيـة مدتها ساعة كاملة من دار الإذاعة وكانت تذاع على الهواء مباشرة.
عام 1948 تعرفت على الملحـــن عباس جميل، ولحن لها أول أغنية وكانت بعنــــوان (أخاف أحجـــي وعلي النــــاس يكلــــون) وهــي مــن كلمات الشاعر محمد العـــزاوي، واستمر التعــــاون بينهما لما يزيــد على 80 أغنية منها: (أنا اللي أريد أحجي) و(يم عيون حـراكة) و (هلا وكل الهلا) و (جيت لهل الهوى) و (سوده أشلهاني) و (لو للغرام حاكم)، وكان آخر لحــن قدمـــه لها هي أغنية (وين ابن الحلال الشاف محبوبـــي) وهــــي من كلمات الشاعـــــــر عبد الكريم العلاف، إذ يقول عنها الفنان عباس جميل: قرأت في صوتها بحّة تسيل رقة وحناناً وتلامس بها أرقّ عواطف الانسان.
فضلاً عن مقـــام الدشت الذي أبدعـــت فيه فهـــي تجيـد العديد من المقامـــات والأطــــــوار ومنهــا: العنيسي والمحبوب والمستطيل، وكانت ماهرة في أداء غناء الريف والمدينة.
تعاملت مــــــع الكثير مـــــن الملحنين ومنهــــــم: عبـــــاس جميل، سعيد العجـــــلاوي، محمد نوشــــــي، خضر الياس، رضا علي. وكتب لها العديـــــــد من الشعــــــراء منهم: سبـــتي طاهر، جبوري النجار، سيف الدين ولائي، عبد الكريــــم العـــــلاف. ومن أغانيهــــــا المشهورة: (تفرحون افرحلكم) و (يا أسمــــر يا حلو) و (عليانـي) و(خاله شكو) و (صلوات) و (ياعزيز الروح).
بتاريخ 24/12/1964 وفي يوم ماطر كانت في طريقها لزيارة زوجها صبـــاح في سجــــن الديوانيــــة مع أخي زوجهـا وأختها فاطمه في سيارة فولكس واجن، فاعترضهـــــم في الطريق قطيع من الماشية، ما تسبب بانقــــلاب السيارة ومـــوت شقيقتها فاطمـــة على الفور، فيما نقلت زهور الى مستشفى الحلة حيث بقيت هناك عشرة أيام فاقدة الوعي حتى فارقت الحياة.. لترحل في عنفوان شبابها وأوج شهرتها.
عباس جميل
هو عميـــد الأغنية العراقية وصاحب أشهر الألحان والأغنيات، ترك بصمة واضحــة في مسيرة الأغنية العراقيــة منذ خمسينات القرن الماضي.
هو عباس جميــــل الشيخلي من مواليـــد محلة سراج الدين بمنطقة باب الشيخ وسط بغداد عام 1921.
عام 1941 تخـــرج في مدرســـة ضبـاط الصف المهنيين وتخصص في صنف الأسلحــــة والرياضــــة العنيفــــة، وهنا لابد من الإشــــارة الى صاحب الفضل الكبير في مسيرته الفنية ألا وهو رئيس وزراء العراق الأسبق نوري السعيد الذي توسم فيه الموهبة الموسيقية فقرر نقله من الكليـــة العسكريـــة التي كان يتدرب فيها الى موسيقــى الجيش، ولكن مدرب الجوق الموسيقي البريطاني الميجور سي نيل اعتذر عـن قبولـــــه لوجود فتحــــة بين أسنانـــــه، ولكن رئيــس الوزراء اقترح عليه التقاعد برتبة أعلى والتفرغ لفنه.
كانت بدايــــة دراستـــه العلميـــة على يد الموسيقــــار روحي الخماش، وبعدها تتلمذ على مدرسي المقامات العراقية حسن خيوكة وعبد الهادي البياتي.
عام 1950 ـ 1951 دخل معهد الفنون الجميلة وتتلمــذ على يد الأستاذ سلمان شكر والأستاذ منير بشير وتخرج بدرجة شرف وعين بعدها معلماً للفنية والنشيد في إحدى المدارس الابتدائية.
عام 1954 شارك في فيلم (الدكتور حسن)، لحّن وغنّى فيه أغنية (شباب الريف) وهي من كلمات الشاعر حماده الخزعلي.
قـــــــدم ألحانـــــه الى العديد من المطربين والمطربات منهــم: زهور حسين، سليمة مراد، وحيدة خليل، لميعة توفيق، عفيفة اسكندر، نرجس شوقي، أحلام وهبي، عبد محمد، شهيد كريم، حضيري ابو عزيز وداخل حسن.
كذلك انفتح على المطربين العرب فلحن لسميرة توفيق وسلّامة من لبــــنان ونهاونـــــد ونزهــــت يونس من سوريا وليلى عبد العزيز وعباس البدري من الكويت وليلى حلمي من مصر.
بلغ رصيــــده من الأغاني أكثر من 400 أغنية (بغدادية وريفية) كانت حصة الأسد منها للفنانة زهور حسين ومن أغانيه المشهورة: (يايمه ثاري هــــــــواي) من كلمات عبد الكريم العلاف وغناء سليمه مــــــراد، وغنت له الفنانة وحيــــدة خليل: (جاوين أهلنا) و(عليمن ياكلب تعـــتب عليمـــــــن) و (بسكوت أون بسكوت).. ولحــــــن مـــــن كلمات الشاعـــر كريم العراقي أغنية (يا أمي يام الوفـا) للفنان سعدون جابر.
نال العديــــــد من الأوسمــــــة والجوائــــــز وحاز لقب (موسيقــــــار) عام 1995 الذي منحتــــــه إياه الجامعـــــة العربيـــــة في احتفــــــال أقيم بهــــــذا الخصـــــوص في القاهـــــرة، كــــــذلك لقب بعمــــــيد الأغنية العراقية.
في 1/4/2005 رحــــل الفنان عبـــــاس جمــــــيل وهـــــــو في الرابعــة والثمانين من العمر بعد أن قدم أعمالاً فنية رائعة.