رجاء خضير /
في غفلة من الزمن أصبح ظلي يلازمني في كل خطواتي مبتهجاً فرحاً بما حققه من انتصار على قلبي الضعيف الذي بات أشد سواداً من ليل الصحراء البهيم، حينما رافقتني في مشوار حياتي الورود التي نثرها يوماً في طرقاتي والتي دفعتُ ثمنها فيما بعد، واكتشفت أنها زهور تفتقرُ إلى الحياة، فقررتُ الابتعاد، حينها دفع الذين أُحبُهم الثمن… نعم ثمنُ باهظ لم أفكر فيه يوماً!
جميلة رقيقة، خضرةُ عينيها تأسرك وأنت تسمع معاناتها الطويلة التي لا تتناسب وسنوات عمرها المعدودة، قالت: أنا إنسانة محطمة لا أعرف ماذا أفعل، تائهة في هذه الدنيا لا سند لي رغم أن لي أربعة إخوة على قيد الحياة، ووالديّ اللذين كانا سبباً بما أنا فيه الآن….
بدأت حكايتي حينما نجحت من المتوسطة وكنت من المتميزات على أقراني، دخلتُ الإعدادية وفي أول أيامي فيها تحدثت أمي معي عن مشروع زواج من أحد أقربائنا أعجبها هي لأنه يملكُ مصانع وبيوتاً وأملاكاً أخرى، لم أدعها تكمل وصرختُ متجاوزة حدود الأدب من شدة غيظي، لم أصدق ما قالتهُ ودار نقاش عنيف بيننا أنا وهي، أما والدي الذي كان حاضراً فقد اكتفى بالصمت، فعرفت أنها هي وراء هذه الرغبة المجنونة…
وهنا دخل شقيقي الكبير وسأل أمي عن سبب الضجة وبعد أن فهم الموضوع قال لها اتركيها وشأنها يا أمي فهي ما زالت صغيرة جداً على الزواج، لكنها أسكتتهُ بصرخة منها، وخرج ليتدبر أمره للسفر خارج العراق، فهو من الأطباء البارعين، أما بقية أشقائي فلم يتدخلوا أبداً…
حدثت والدي ليلاً وكنا بمفردنا وبينّتُ له أنه لا يناسبني فهو أكبر مني عمراً وشكلاً وعلماً كيف ترضى لابنتك بزواج كهذا يا أبي..
قال وهو يهمُ بالدخول إلى غرفتهِ: هذه رغبة أمكِ يا ابنتي!!
في اليوم التالي جاء أهلهُ لزيارتنا وطلبوا يدي رسمياً، لم تنتظر أمي حتى تسألني عن رأيي، بل أعلنت موافقتها، وعلت الزغاريد بيتنا وأنا مندهشة مما يحدث… حينما خرجوا أعطوني الهدايا الثمينة بحجة نجاحي من المتوسطة، ومنها بدأت أمي تنصحني وتضرب لي أمثال الزيجات الناجحة بسبب مقدرة الزوج المادية، وفشل بعضها بسبب الفقر، بل هددتني إن لم أوافق عليه فإنها ستنتحر!!
خشيتُ عليها ووافقت على الخطوبة بشرط أن أكمل الإعدادية وبعدها يتم لهم ما أرادوا… وافقوا على هذا الأمر، ومن يومها لم تنقطع هداياه ولا زياراته لنا، كنت أرى إعجاب أمي به وراحتها واطمئنانها على مستقبلي، وأمام كل هذا أصمت…
نجحت من الإعدادية بتفوق باهر، وحضر أهله الحفل الذي أعدته أمي لهذه المناسبة، عجبتُ من أنه قدّم لي هدية ثمينة وأعلن للحضور أن هذه الهدية هي (النيشان) لأن القاضي سيحضر بعد قليل لعقد القران، ونظرتُ إلى أمي التي أبعدت نظرها عني… إذن فهي وهو قد اتفقا على كل شيء دون علمي… وتم لهم ما أرادوا، بل تزوجته بعد فترة قصيرة، لكنني أخبرتهم بأنني سأواصل دراستي في الجامعة، وأثناء دراستي أصبحتُ أماً لطفلين جميلين، أما الثالث فقد جاء حينما عملت في إحدى الدوائر المهمة، ساعدتني أمي في رعايتهم لأنها تعلم جيداً أنني لا أعرف شيئاً من هذه الأمور.
وبدأت الحقائق تنكشف يوماً بعد آخر، فقد سحب والده إدارة المصانع منه حينما تعرض لخسارة، وأيضاً باع البيت الذي يسكنون فيه، عدتُ أنا وأطفالي إلى أمي التي لم تتحدث أو تضجر منا والسبب واضح، استأجر بيتاً لنا ولأمه وكان والده يسكن عند زوجته الأولى أم أولاده وبناته، أما أمه فهي الثانية وقد هجرها بسبب تصرفات ابنها (زوجي) الطائشة، وهكذا ساءت أموره المادية وبدأ يطلب مني ما قدمه لي من هدايا ذهبية، أعطيته كل ما أملكُ، وبدأ يستدين من الآخرين، ثم اضطر إلى العمل في محافظة أخرى بعد أن أبقى أمه عند أختهِ المتزوجة، أما أنا فقد عدت نهائياً إلى أهلي وانقطعت أخباره عنا، أمي ترى وتراقب ما يحدث وهي صامتة، أما والدي فينفجرُ أحياناً ويتهم أمي بأنها وراء كل ما يحدث لنا…
في أحد الأيام خرجت أمي دون أن تخبرنا إلى أين، وفي آخر النهار عادت غاضبة حزينة لتخبرنا بأنه قد عاد منذ أشهر، وحينما سألته لماذا لا يسأل عن أولاده وزوجته! أجابها ببرود (ابنتكِ لا ترغب بي زوجاً…سأطلقها)
يبدو من تقاطيع أمي أنها أشعلت ثورة في بيتهم وعادت: شكوتُ الحال لأشقائي، كان كل واحد منهم يتذرع بأولادهِ أو انشغالهِ بالعمل و..و، وبقي والدي هو الذي يساعدني سواء في مصاريف الأولاد أو مصاريف البيت، دخل أولادي المدارس وبدأت أمي تضيق ذرعاً بهم، وفي مرة طلبت مني أن أتصل به ليأخذ الولدين الكبيرين، توسلتُ بها أن تتركنا نعيش معاً فهما ما زالا صغيرين، وأقنعتها بأنني سأعطيها راتبي كله، دون جدوى، ثم جاء والدهم وأخبرني بأنه سيأخذ الولدين الكبيرين ليعيشا معه وأمه، حدث هذا بعد اتصال أمي به، بكيا كثيراً وأنا ملتصقة بهما، وفي النهاية سحبهما بقوة مني وأنا أستغيث بأمي وأبي دون جدوى!!
بعد خروجهما مرضتُ ورقدتُ في الفراش، والأقسى من هذا كانت أمي تخبر منْ يسأل عنهما، بأن والدهما اخذهما عنوة من أحضان أمهما!!.
هل تصدقون ما يحدث معي من جراء تصرفات أمي؟ كنت أتابعهما هاتفياً أشرح لهما ما يصعب عليهما من الدروس وأزورهما في المدرسة، وهكذا مضت السنون حتى أصبحا في المتوسطة، أما طفلي الذي بقي معي فقد نجح من الأول الابتدائي إلى الصف الثاني، لأرى طليقي قد أتى ليأخذه أيضاً، فصرخت بوجهه، من أين لك هذه القسوة؟ أجاب ببرود وهو ينظر إلى أمي: لستُ أنا إنما هي (أمكِ) تريد هذا! وأضاف : لعلها ترغب بتزويجك بآخر غني ويملك …. لم أدعه يكمل وهجمتُ عليه وضربتهُ بكل ما وقعت عليه يدي، وتوجهتُ إلى أمي ودفعتها نحو الحائط وأنا أصرخ: كل عذابي ومعاناتي بسببكِ أنتِ، دمرتِ حياتي والآن تدمرين حياة أولادي، ما ذنبي أنا وما ذنبهم هم؟
أمي.. أحببتِ المال الزائل والغنى المفقود وبعدها تريدين بيعي مرة أخرى، النجوم أقرب إليك من تفكيرك هذا! وعيتُ وعرفت جيداً تفكيركِ.. ألم تتألمي لمنظر أحفادك وهم يقبلون قدميك لكي يبقوا معي! هل أنت أم حقاً؟؟ لو كنتِ زوجة أب لصدقتُ ما فعلتِهِ معي. بعدها أبعدني والدي عنها ليخبرني بأنها ستموت بين يدي!! تراجعت إلى الوراء لأبحث عن طفلي الصغير فلم أجده ولا والده الذي يبدو أنه تركنا نتصارع أنا وأمي فأخذ الطفل ومضى به.
هذه قصتي… قد تحدث لأخريات غيري.
نعم يا صاحبة القضية، قد تتباين القسوة والرحمة عند الأمهات، لكن غالباً ما يكون العطف والحنان والرحمة هي من صفاتهن ولكن مع أمك نتوقف قليلاً، حبها للمال والجاه أعمى بصيرتها وحدث ما حدث لك ولأولادكِ.. تحمليّ المسوؤلية وناقشي والد أولادك بأنك سوف تستأجرين بيتاً صغيراً تعيشين فيه أنت وأولادك وأنتما تتحملان مصاريف البيت والأولاد وتشرفين على أولادك ورعايتهم لأنهم في أعمار يحتاجون فيها حنانك، لا تجعليهم حطباً لنار أوقدتها أمك، وفي الحياة عشرات الأمهات ضحين بكل شيء من أجل فلذات أكبادهن… أليس كذلك يا صاحبة القضية ؟!