ارشيف واعداد عامر بدر حسون /
ارتفى علم النفس إلى سدّة الفن، إنه لم يعد مقتصراً على المرضى والمعذبين والمكبّلين بسلاسل العقد، بل صبا الى الشعر والموسيقى والغناء، ليعيش في جوها الممتع..
عالم نفساني من أصل لبناني، لا ضرورة لذكر اسمه لأنه لا يطمع بإعلان، استطاع من خلال أغاني كبار المطربين والمطربات في الشرق أن يرسم شخصياتهم دون أن يعرفهم، ويحلل نفسياتهم دون أن يعايشهم ويأتيك بآراء قد تصل إلى حد الذهول.
وفي إحدى السهرات الحلوة في شقة صديقة تهوى الغناء بقدر ما تهوى علم النفس، قالت للعالم النفساني الذي هو من أصل لبناني:
* هل يستطيع علم النفس أن يحلل نفسيات المطربين من خلال أغانيهم؟
قال العالم:
– بالطبع.. ولكن العلم يعتمد في هذا الصدد على حاسة العالم:
قلت:
– هل يعتمد العلم والعالم على كلام الأغنية التي ينشدها المطرب أم على صوته، في ناحية التحليل؟
قال:
– على الكلام والصوت معاً.. لأن الأغنية إذ تنشد تصبح جزءاً من شخصية المطرب ونفسيته.
* ولكن الأفلام والمسرحيات قد تفرض على المغني كلاماً معيناً ولحناً معيناً وموقفاً معيناً لا علاقة له بها كلها.
– أبدا… إن المطرب لا يغني إلا إذا ارتاح لما يغنيه حتى ولو كان مفروضاً عليه.. على كل حال، إن هذا “الغرض” مهما طغى قد يقوى على إخفاء بعض معالم الكلمة، ولكنه لا يقوى قطعاً على إخفاء كل معالم الصوت.
* حسناً.. سنسمعك الآن بعض أغاني كبار المطربين والمطربات، وعليك أن تحلل نفسيات أصحابها من خلالها..
– سأحاول..
مطلعها:
الصبا والجمال ملك يديك
أي تاج أعز من تاجيك
نسب الحسن عرشه فسألنا
من تراها له؟ فدلّ عليك
قال العالم:
– هذا رجل واثق من نفسه حد الغرور، ولكن غروره باطني تستره الحركة المتواضعة.. وهو أرستقراطي النزعة، كأنه ولد في قصر وترعرع على يدي مربية سويسرية..
ولست أدري إذا كان يخاف لمس الأشياء بيديه حتى لا يتأثر بكهرباء الآخرين أو بما تحمل راحاتهم من رواسب.. لذلك تراه “يسأل” عن “العرش” ويترك لغيره أن يدله عليه..
واستمع العالم الذكي إلى فريد الأطرش يغني:
عش أنت إني متُّ بعدك
وأطِلْ إلى ما شئت صدّك
كانت بقايا للغرام
بمهجتي فختمت بعدك
وبعد أن تملّى من صوته وأدائه، قال:
فريد الأطرش إنسان قلبه على كفّه.. معطاء، مغداق، مُسرف حتى في حياته بسبب فنّه!
وهو دقيق في تصرفاته، يحاسب الأقربين قبل الأبعدين، ويبدو ذلك واضحاً من طريقته في الأداء المركّز، المفصّل، الموضوعة النقطة فيه فوق كل حرف!
وفريد الأطرش لا يقوى على الشكوى حتى وهو يتألم.. إنه قوي، عنيد، صلب في رأيه وفي أمره.. ومقاوم، ثائر، يتحدى حتى الموت!
ولست أدري إذا كان حبه في أغانيه ينبع عن حب حقيقي، أم هو تمثيل لحب كبير يشتهي أن يصادفه في يوم من الأيام.
وانطلق صوت وديع الصافي يغني:
جنات عامد البصر
ما بيشبع منها نظر
وطيور عا نغماتها
بينام وبيصحا القمر
وتأمل العالم صورة وديع الصافي باللباس المدني، وقال ضاحكاً:
– إنني لأعجب كيف لا يرتدي الصافي الثوب الفولكلوري.. إنه جبلي، جبلي، جبلي حتى ولو لبس السموكن..
وفي صوته جبل لبنان.
وفي روحه عاطفة ابن الجبل في لبنان المشرع الباب، الممتد السفرة، الذي يتضايق إذا لم يزره كل يوم أقل من عشرة أصدقاء وعشرون من الغرباء.. ولكنه خارج بيته يقبض يده، لا لشيء.
راجعة على ضيعتنا
وعالأرض اللي ربتنا
على بوس الأرض
الحبيناها وحبتنا
واستمع العالم إلى صباح حتى الثمالة، ثم قال:
– هذه “اللايدي” فنانة مدنية سقطعت خطأ في كروم القرية..
إن في صوتها بعض نكهات هذه الكروم، ولكنه صوت ولد أصلاً على مسرح سارة برنار.. وصاحبته لبست فساتينها من محلات لانفان وكاردان وبلمان..
والفرحة في أدائها تعكس شخصية امرأة يحبها الآخرون أكثر مما تحب هي الآخرين.. إنها –وأرجو أن أكون مخطئاً- نرسيسية.. تحب نفسها إلى درجة الإعجاب، وعندما تشبع من نفسها “تمنح” البقايا لمن يستحق!
وفيروز
ما أن سمعها تغني فقط:
حبيتك بالصيف
حبيتك بالشتي
نطرتك بالصيف
نطرتك بالشتي
وعيونك الصيف
وعيوني الشتي
ملقانا يا حبيبي
حتى قال:
هذه المرأة ثائرة.. ثائرة ولكن في يديها قيدين لا يتحطمان إلا عندما تغني..
إن حريتها الوحيدة هي حريتها الغنائية.. لذلك تلمحها تصرخ وهي تغني للحب.. فهل سمعت بحياتك امرأة تقول لحبيبها “حبيتك بالشتي” وكأنها تصفعه؟!
إن فيروز صعبة على علماء النفس، ولا يستطيعون اكتناه أغوارها إلا بعد أعوام طويلة..