أم مازن.. المرأة التي اقتحمت أسوار المهنة

آية منصور- تصوير: صفاء علوان

لعل – في اذهاننا- ارتبطت تلك الفكرة، فكرة سجن مهنة التجارة بالرجال وحدهم، ونادرا ما نسمع، بامرأة تزاول هذه المهنة الصعبة جدا، او حتى تفكر باختراقها، لكن ان تعيش امرأة داخل سوق للتجار، وتنجح وسطهم، وتصبح السيدة الوحيدة وسط الرجال، فهنا القصة التي نبحث عنها في فقرة “بصمة.”

عند شارع النهر، تمر سيدة، سنة 1978 حيث بغداد، مدينة الحب، والقصص المدهشة والحياة التي لم تر الحروب وقتها في تلك المدينة، تطل هذه السيدة التي تبحث عن العمل بسيارتها الفولفو، وتفتش داخل المحال عن أي شخص يريد بيع محله لتبدأ بمزاولة هذه المهنة التي ورثتها عن أعمامها لا بالدراسة! تقول أم مازن: كنت اتردد وبشكل يومي بسيارتي بحثاً عن أي محل، أحدهم اكد لي انه بدأ ينزعج من مضايقاتي والحاحي، وهو يفكر جديا ببيع محله لي، لم اكن املك مالا، وليست لي سوى سيارتي، فاقترحتها عليه، بقي مندهشا ثم طلب مني عرضها في المعرض ليعرف سعرها مقارنة بسعر المحل، فلم يتبق سوى 4 آلاف دينار عراقي، فضلا عن السيارة، لأقدمها من أجل تسجيل المحل باسمي. تؤكد أم مازن ان أي عمل يبدأ صعبا للغاية حتى يعتاده الشخص، وهذا ما كان معها، هي السيدة الجميلة التي تعمل لوحدها مع الرجال – كنت أرى أعمامي وهم يمارسون هذه المهنة واود أن اصبح مثلهم بأية طريقة، كانوا تجارا للتمور، فأردت العمل بشيء مقارب لهم، مختلف بنوعيته، وبدأ العمل يتكاثر تحت يدي، انتظرت سنتين، ثم بدأت العمل على شراء معمل خاص بي من أجل خلق ماركة خاصة بي، دون الشراء من المعامل الأخرى، أنا اصنع الأحذية والحقائب، وأنا ابيعها ايضا.

عضوية التجارة

وتؤكد ان دخولها عضوية التجارة وافتتاحها المعمل لم يكن بالأمر السهل أبدا، حيث ان امتلاك عضوية التجارة كانت تتطلب خبرة ومعرفة بما يتداوله التاجر عموما -قبيل اعطائي عضوية التجارة، وضعوني باختبار، كانت اسئلتهم دقيقة للغاية، حول كيفية صنع الحذاء والحقيبة، وما المواد التي تدخل في صناعة الأحذية، ولم علينا اختيار نوعية الجلود هذه دون غيرها واسئلة كثيرة جدا، استطعت تجاوزها بسهولة. هنا راودني السؤال: هل ما زال العراق يتعامل بحرفية ومهنية هكذا في جميع المجالات لاختيار المحترفين؟

الحصار وحده ينجح

أم مازن، التي استطاعت لوحدها جلب العمال من مختلف الجنسيات، وضع التأمينات ودفع الضرائب لهم، عند الحصار، وكأي عراقي انتكس، وكأي عراقي عانى الخسارة، اضطرت لبيع معملها الذي صنع آلاف الأحذية على مدار 11 سنة: بعد الحصار وضرب الكهرباء، ارتفعت اسعار المواد التي نصنع منها الأحذية، والجلود ايضا، كما ان السوق توقف تماما، وركدت البضاعة بصورة كبيرة، والكهرباء لم تعد تعمل ولم تجدِ نفعا عند تواجدها، اذ تعمل مرة في اليوم، ولا نعلم ما نفعل خلالها، بقينا نحن التجار على هذا الحال لعدة سنوات حتى استسلمنا تماما لفكرة اليأس وعدم انتظار اعادة تصنيع البضاعة المحلية.

هكذا ماتت الصناعة العراقية

ومن هنا بدأت عمليات الاستيراد وتوقف العراق عن الصنع! حيث كانت أولى محطات الاستيراد من سوريا، إذ تخبرني أم مازن ان البضاعة السورية كانت منافسة بعض الشيء لكنها أقل كلفة. في بداية عام 1995 بدأ الاستيراد من سوريا، ثم تدريجيا انتشر تجارنا نحو المدن والبلدان الأخرى، وهكذا ماتت الصناعة المحلية العراقية منذ أكثر من 20 سنة. وبعد الحرب، تمكنت أم مازن من المحافظة على عملها، لسنوات من “الروحة والجية بطريقها” حسب قولها، حتى في اعنف وأشد ايام الطائفية التي انجبت العشرات من الضحايا، فعلت كل شيء من أجل عملها، من اجل الاستمرار به، عدت مرة اخرى لبيع سيارتي، لكن هذه المرة من اجل انقاذ نفسي في الأحداث الطائفية، في أحيان كثيرة كنت احضر الى المحل سيرا على الاقدام، حدث الكثير من الاشتباكات واضطررت البقاء كثيرا في المحل، تغيرت السنون وتبدلت العملة والعديد من اصحاب المحال، لكني ما زلت هنا، واحب عملي. وترى أم مازن ان علاقتها الطيبة مع الاخرين، كسرت الحاجز والتابو وايضا مفردة “المرأة” وسط الرجال، وجعلتهم اكثر مرونة معها -التعامل الطيب لا يجلب سوى الحب لك، جميعهم اخوتي وزملائي، لم أجد معهم شيئا سيئا، انقذوني وساعدوني في أمور كثيرة وانا سعيدة للعمل بقربهم.