أيقونة إيطاليا وخيالها

مقداد عبد الرضا /

الخوف, الخجل, العائلة, المجتمع, التردد, كل هذه الإشارات تجعل المنجز العربي يحجم عن كتابة مذكراته, أحسب أنَّني قرأت الكثير من اليوميات ومنها تعلّمت الكثير, لكن أبداً لم يدر في خلدي أن صاحب اليوميات في صراحته يعدّ من الأشخاص المتدنية أيامهم والمخجلة, نحن نحتاج إلى تقييم مجتمعي كبير حتى نتعلّم كيف نستقبل أيام المبدع العربي بروية ودون انفعال, وبالتالي هي حياته مهما كانت وهو المسؤول الأول عنها، أليس كذلك؟ الشجاعة هي الفصل.
في قصيدة اطلعت عليها منذ زمن بعيد ولم أعد أتذكر مَن الذي سطرها بهذه الطريقة التي جعل فيها الحياة تتسربل بهدوء نحو الأصابع , تقول القصيدة :
كل يوم أجلس فيه من الصباح إلى المساء أعد فيهما أصابعي فأتذكر سنيَّ عمري
كل يوم أجلس فيه من الصباح إلى المساء , أعد فيهما أصابعي فأتذكر عدد أصدقائي
سيأتي يوم أجلس فيه من الصباح إلى المساء, أعد فيهما أصابعي فلا أجد سوى أصابعي.
إذن هي الأصابع. الأصابع ليست للمس فقط، كما تعلمنا, الأصابع تصنع حلوى وأمنية تلاحقها بأن الأحفاد سيحبونها, الأصابع تفتح دفتر اليوميات وتلتقط الصور التي تحكي لنا أجمل الأيام.. أيام الزهو وعصر الأنوار. لو أن الفرصة جاءت لوالدتها بعد أن ذهبت إلى هوليوود لجمالها الأخاذ لكانت الابنة الآن تجلس منزوية في البيت ترتق الزمن والبعض من القطع البالية, تعد الطعام وتجلو الصحون, ولن يكون هناك كارلو بوتني، صنو المحبة والدلال، ولا سينما. الأب حسم الأمر: لن تذهب زوجته إلى هوليوود وانتهى الأمر. ظلت الأم حبيسة البيت وانطلقت صوفيا لورين وتألقت, هذا كل ما في الأمر, هل يوجد المستقبل في نهاية الدرب؟
أي مستقبل؟ نحن نحلم أبداً، لكن سرعان ما يتبدد الحلم حينما يجبرنا الزمن بأن الوعاء بالمرصاد, تلك الكان يا ماكان لعلها كانت قصيرة قياساً بالإنجاز؟ الفتاة الصغيرة تلوّح بساقين ناحلتين, ويسرح الخيال نحو الذروة, لم لا, من هو الأفضل, أنا أم الزمن؟ لابد من المقارعة وإلا سنموت تحت وابل الأيام, إذاً هو الحب, هي العينان تراقبان البهجة والبسالة. سوف نتهجى الحب, كارلو الحبيب يظهر من بين طيات الزمن بعد مغامرة بائسة: “كارلو يضعني في قلب الحبور، ينير حياتي، يلمس لحن الوخز مني, ذلك الوخز الحميم الصافي الذي دربه كارلو على الاندفاع, الاندفاع بدون هوادة تخلصاً من تلك الجذور الباهتة التي دفعت بي إلى حب الحياة وتسلق جبل المصدّات ببسالة وحب. السينما تضعني في قلب الضوء وقلب الألم, عند الكنيسة هاهم الأوغاد يجتاحونني مع ابنتي تحت قبتها فيسيل الدم من عذريتها.”
لكن الفرح كان ينتظر, هي الجائزة إذاً، جائزة حلم أي ممثل (الأوسكار), أفضل أداء عن (امرأتان ١٩٦٠). “حتى يومنا هذا حين يحدث أن أشاهد فيلم (امرأتان)، كل ما أحتاج إليه هو مشهد واحد لا أكثر, كي أعيش مجدداً تلك العاطفة كلها كما في المرة الأولى، أرمي حجراً على سيارة جيب عائدة للحلفاء بعد أن اغتصبت قواتهم تشيزيرا وروزيتا وكانت شتائمي: لصوص، وأخرى أكثر قسوة، ,هي فعل من أفعال التمرد ضد كل الكراهية التي جعلت العالم رهينة على مدار سنوات طويلة جداً.”
وتنتصر الحياة. تنتصر بأولاد يمرحون ببهجتها، و “تدمع روحي من الفرح الطاغي, أولاد كحبّات القرنفل الزاكي, يمرحون، ابتهج وأحزن, يكبرون وأتطلع إلى الوراء وأسال, كم من السنين مرت, كم من الأفراح وكم من الأحزان؟” تنتصر الحياة بالصحبة المتألقة: يظهر مارشيللو ماستروياني فيزيح الكثير من التعرجات, مارشيللو الحب والصحبة والألق، وتلك البسمة التي لا تفارق محيّاه وتمنحني البهجة والحبور والثقة في الخطوات، مارشيللو السؤال, هل انتما عاشقان؟ يهز هو كتفيه بلا مبالاة وكذلك أفعل أنا. تلك الأفلام الـ 12 التي أنجزناها معاً كانت قد تركت يقيناً, في المرة الأولى كنت في سن العشرين وكان هو في الثلاثين, في المرة الأخيرة كان هو في السبعين وكنت أنا في الستين.”
والآن هاهي الحياة تتسربل, تحبو نحو السلام والسكينة وتنتظر, من يدري؟ ذلك الحزن الشفيف وتلك اللوعة بالبحث في بلاد الصقيع, كم تفرقنا الحروب؟ كم تعبث بنا, موسكو الثلج وتلك العيون التي تدور, تبحث في كل مكان، وحينما تجد يكون الزمن قد مات وتوقف عند تلك اللحظة المفزعة, لم تعد تلك الزهرة يانعة, أزف الوقت وما علينا إلا الانصياع, هو البحر وزرقته لا تحتويه المراكب، كما قالها سان جون بيرس ذات يوم, ضيقة هي المراكب, ضيق سرير محبتنا, صيف العالم يغري بالتطلع إلى البحر، إلى تلك المراكب, بحر الصيف يحمل في طياته الحنان أحياناً: “كنت متعبة جسدياً ونفسياً على حد سواء, والبحر, الريح, شمس جزيرة هايدرا الجميلة جعلتني أشعر أنني في منزلي بكل معنى الكلمة, اكتشفت من جديد روائح عالمي, الضوء والآفاق ذكراني بالمكان الذي نشأت فيه، كل الخطوط تمحى إلا خطوط النشأة, خطوط الطفولة, بها نستعين للهرب من جزع الحاضر, كان قد شاخ تماماً, لكن في نهاية المساء ظلت أقدامه تضرب الأرض ويلح في طلب الحلوى, طفولة لا تطهرنا غيرها, دي سيكا الحالم, شوراع إيطاليا, (جيناجيتا) مدينة السينما تحمل حالها وتنزل إلى الشارع, تترك الرسوم والديكورات وتلك الفذلكة وتتجه لتؤسس الواقعية الإيطالية وتصدرها إلى العالم, العالم يتعلم من الواقعية الإيطالية (الواقعية الفرنسية والواقعية الإنكليزية), لعل الحاجة تدفع بنا إلى الاختراع, سارق الدراجات كان واحداً من أجمل البدايات, دي سيكا أبقاني تحت السيطرة, كان يسحبني إلى الأسفل إذا ما حلقت عالياً جداً (أوفر), ويرفعني عالياً إذا ما شعرت بالوهن ونقصان في العزيمة, لكننا حينها نصل إلى حالة القلق, حينما يصور المشهد كانت عيناه تمتلئان بالدمع, استعملي هذا, خذي واحداً جيداً, كان يعرف كيف يضغط على أحاسيسي ببراعة حولتني فعلاً الى امرأة بعيدة جداً عن سحر النجومية.”
والآن هل نعتبر يوميات صوفيا لورين هي كنزها الثمين؟ أجل، فنحن لم نكشف الكثير منها لأسباب تتعلق بالمكان والوقت, كتاب صوفيا لورين (أمس واليوم وغداً, حياتي) جدير بالقراءة, (صدر عن مؤسسة المدى وقام بترجمته الأستاذ علي عبد الأمير صالح ويقع في 520 صفحة من الحجم المتوسط ). علينا أن نعرف أخيراً أن عدد الأفلام التي أنجزتها من العام 1950 وحتى آخر فيلم لها في العام الماضي يقارب الـ 96 فيلماً، هو كنز بحق.