عامر جليل ابراهيم /
على الجانب الشرقي لنهر دجلة، وفي الضفة التي تقابل مرقدي الإمامين الكاظمين عليهما السلام، دفن أحد أهم أئمة الإسلام وصاحب أحد أول المذاهب المشهورة، لتتحول تلك البقعة المباركة الى مرقد وجامع ومَعلم من معالم بغداد وتتشرف بحمل ذلك الاسم الذي أثار الجدل بطروحاته وفتاواه ومواقفه النبيلة، إنه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان الذي دفن في مقبرة الخيزران لتحمل تلك المنطقة اسم مدينة الأعظمية.
“مجلة الشبكة”، وضمن سعيها للتعريف بالمعالم السياحية والدينية، زارت جامع الإمام أبي حنيفة النعمان والتقت الشيخ الدكتور عبد الوهاب السامرائي إمام وخطيب جامع أبي حنيفة النعمان للتعريف بهذا المرقد الشريف.
قال السامرائي:
– الإمام الأعظم، التابعي الجليل، هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ (80-150 هـ/ 699-767م)، فقيه وعالم وأول الأئمة الأربعة عند أهل السنّة والجماعة، وصاحب المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي، ويُعد من التابعين، فقد التقى عدداً من الصحابة منهم أنس بن مالك.
اشتهر بعلمه الغزير وأخلاقه الحسنة، وكان معروفاً بالورع وكثرة العبادة والوقار والإخلاص وقوة الشخصية.
ولادته
وُلد أبو حنيفة بالكوفة ونشأ فيها، وكانت حينها إحدى أعظم مدن العراق التي انتشر فيها أغلب العلماء أصحاب المذاهب والديانات المختلفة.
نشأ أبو حنيفة في هذه البيئة الغنية بالعلم والعلماء، فابتدأ منذ الصبا يجادل مع المجادلين، ولكنه كان منصرفاً إلى مهنة التجارة، فأبوه وجدّه كانا تاجرين، ثم انصرف إلى طلب العلم، وصار يختلف إلى حلقات العلماء، واتجه إلى دراسة الفقه بعد أن استعرض العلوم المعروفة في ذلك العصر، ودرس على يد شيخه حمّاد بن أبي سليمان يتعلم منه الفقه حتى مات حمّاد سنة 120 هـ، فتولى أبو حنيفة رئاسة حلقة شيخه في مسجد الكوفة، وأخذ يدرِّس تلاميذه ما يُعرض له من فتاوى، حتى وَضع تلك الطريقةَ الفقهيةَ التي اشتُق منها المذهب الحنفي، وقد تتلمذ على يديه علماء أجلاء منهم الإمام زفر بن الهذيل وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني والحسن بن زياد.
وفاته
وأكمل الشيخ الدكتور عبد الوهاب السامرائي: المشهور في التاريخ أن الإمام الأعظم توفي في رجب سنة 150هـ، وكانت وفاته في بغداد، ودفن في مقبرة الخيزران في رصافة بغداد وسميت المنطقة بعد ذلك بالأعظمية.
تتحدث الروايات أن الإمام لما أحس بالموت سجد، فمات وهو ساجد، وقد أوصى أبو حنيفة أن يُدفن في أرض طيبة لم يجر عليها غصب وشيّعت بغداد كلها جنازة فقيه العراق، والإمام الأعظم، ولقد قُدِّر عدد من صلوا عليه بخمسين ألفاً.
الجامع
يقول الدكتور السامرائي: يعد جامع الإمام الأعظم أحد أهم المساجد والمدارس التاريخية في مدينة بغداد، بني الجامع عام 375 هـ بجوار قبر الإمام أبي حنيفة، ثم في عام 459 هـ/ بني مشهد وقبّة على القبر وبنيت قربه مدرسة كبيرة، والتي تعد من أقدم المدارس وتسمى حالياً كلية الإمام الأعظم، وهي ثالث أقدم الجامعات بعد جامعة القرويين في المغرب، والجامع الأزهر في مصر.
تبلغ المساحة الكلية للجامع نحو (10,000 م2) ويستوعب أكثر من (5000 مصلِّ)
وللجامع منارتان مبنيتان على الطراز القديم ، يبلغ طول الواحدة منهما نحو (35 متراً)، تغطي نهايتها قطع من النحاس، كما يحتوي المسجد أربع قباب مختلفة الأحجام، كبراها تلك التي تتوسط المسجد والتي يبلغ قطرها (30 متراً) أما القبتان على يمين ويسار المسجد فيبلغ قطر الواحدة منهما (15 متراً).
وللجامع ساعة عريقة كبيرة موضوعة على برج أسطواني بارتفاع 25م مكسوّ بالفسيفساء الأزرق والأبيض تصدرت الساعة واجهته. صنعها الحاج محسوب الأعظمي في خمسينات القرن الماضي وما زالت تعمل ويقوم أحفاده برعايتها وإدامتها.
كما يحوي الجامع مكتبة عريقة فيها المئات من نوادر الكتب الفقهية والعلمية. وللجامع مؤسسات محيطة به ومتصلة معه ومنها كلية الإمام الأعظم، وهي امتداد للمدرسة التي مضى على إنشائها أكثر من ألف عام، والمجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء وهو المرجعية الشرعية لأهل السنّة والجماعة ويشرف على الحلقات العلمية لتدريس العلوم الشرعية في بغداد والمحافظات وتقوم عليه نخبة من العلماء، وهناك كذلك الأقسام الداخلية لطلاب العلوم الشرعية وتضم ما يزيد على 800 من طلاب العلوم الشرعية بمراحلهم وتخصصاتهم كافة.
مقتنيات
يوجد في جامع الإمام أبي حنيفة الكثير من المقنيات النادرة من الهدايا التي قدمها ملوك وأمراء ورؤساء ومؤمنون، فالجامع يضم بين مقنياته الآثار الشريفة من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم، التي اعتاد الناس، ومنذ عشرات السنين، التبرك بهذه الشعرات ليلة المولد النبوي الشريف وليلة القدر من رمضان، كما يضم مسجد الإمام الأعظم ثلاثاً من قطع الكعبة المشرفة. وفي مكتبة الجامع وثائق قيّمة مهداة وموقوفة من قبل بعض المتبرعين تشمل مصحفاً كبيراً ومذهباً ومزخرفاً هدية من الحاج حافظ محمد أمين الرشدي سنة 1236هـ للسلطان محمود، والمصحف المشهور بـ (قرآن أنور باشا) بخط اسطنبولي محلّى بالذهب، غلافه من الذهب مرصع بالألماس، أهدي خلال الحرب العالمية الأولى.
ومن مقنيات الجامع مصحف كبير الحجم مزخرف ومذهب جميعه، في كل صفحة منه سطران كبيران بخط كبير، كتبا بماء الذهب، وبعضها بحروف أصغر، يقال لهذا النوع ياقوتي أوقفه مصطفى أغا القابولي سنة 1073هـ.
وهنالك مصحف كتب بماء الذهب للسطر الكبير، وبقية الأسطر بالحبر الأسود، وفي أطرافه دوائر مزخرفة بالذهب والألوان أهداه مصطفى أغا سنة 1073هـ.
كذلك يوجد في المكتبة مصحف ضخم جداً مذهب ومزخرف على أطرافه تعليقات كوفية مزخرفة بالذهب، كتب سنة 1048هـ. أهداه مصطفى باشا.
ووصلت في عام 1950 هدية ملك الأفغان محمد ظاهر شاه التي كانت عبارة عن مصحف كبير وضع داخل صندوق كبير من الفضة المزخرفة ومطعّم بالأحجار النفيسة.
إعمار
يحدثنا الدكتور عن أهم حملات الإعمار التي شهدها هذا الصرح العظيم قائلاً: لقي المشهد والمسجد بعض العناية من قبل الملك محمد بن منصور الخوارزمي بعد مجيء العثمانيين إلى بغداد عام 1543م. وشهد ذلك العام إصلاحات من قبل السلطان سليمان القانوني، فأمر بإعادة تشييد القبّة وإعمار الجامع والمدرسة، وأمر كذلك بتعمير دار ضيافة وحمام وخان وأربعين إلى خمسين دكاناً حوله، ثم أمر ببناء قلعة لحراسة الجامع والمدرسة والمنطقة، ووضع جنوداً بلغ عددهم نحو مئة وخمسين جندياً ومعهم معدات حربية ومدافع لحماية المكان. وكانت هناك بعد ذلك إصلاحات أخرى على يد السلطان مراد الرابع عند دخوله بغداد عام 1048هجري.
وفي عهد المماليك جدد الوالي سليمان باشا المرقد وأنشئت المنارة والقبّة عام 1757م، وفي عام 1291هـ (1874م) جدد بناء الجامع بأمر السلطانة والدة السلطان عبد العزيز، وقد بقيت مدرسة الإمام الأعظم المدرسة الوحيدة في الأعظمية إلى جانب بعض الكتاتيب لتعليم القراءة والكتابة حتى سنة 1918م إذ أعيد إعمار الجامع وتنظيم المدرسة التي سميت كلية الأعظمية ثم دار العلوم الدينية والعربية ثم كلية الشريعة ثم كلية الإمام الاعظم، وكانت هناك بعض أعمال الترميم في العهد الملكي.