الجيب..الحياة بعد مجازر الحروب الأهلية

محمود الغيطاني /

ثمة محاولة جادة ومُهمة وفنية يسعى إليها المخرج والسيناريست الصربي “جوران راداكوفيتش” من خلال فيلمه الصربي- إنتاج صربي ألماني مُشترك- “الجيب”، أو حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة الصربية، يعمل من خلالها على تأمل الوضع الذي آل إليه الحال في إقليم كوسوفو بين كل من الأغلبية المُسلمة من الألبان،
والأقلية المسيحية النادرة الباقية من الصرب في أحد الجيوب التي تعيش تحت حماية قوات الأُمم المُتحدة هناك تخوفاً من انتقام المُسلمين منهم، أو محاولة تصفيتهم وإبادتهم.
ان محاولة تأمل الوضع تسعى في جوهرها إلى التساؤل: هل من المُمكن لهؤلاء الألبان المُسلمين التعايش السلمي مع الصرب المسيحيين وتناسي خلافاتهم القديمة، والمجازر المُتبادلة التي وقعت بينهم في الماضي؟
يقدم لنا المُخرج هذا التساؤل، طارحاً علينا تأمله من خلال عيني طفل صربي صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره، يعيش مع جدّه وأبيه في قرية في شمال كوسوفو تحت حماية قوات الأُمم المُتحدة؛ الأمر الذي يجعل الطفل لا ينتقل داخل القرية ذهاباً وإياباً إلى مدرسته إلا داخل عربة عسكرية مُصفحة؛ تخوفاً من الاعتداء عليه أو محاولة قتله، وهو الأمر الذي يجعله وحيداً تماماً لا توجد لديه أية صداقات مع أقرانه؛ لأنهم الأسرة الصربية الوحيدة الباقية في هذه المنطقة، كما أن المدرسة التي يذهب إليها للدراسة لا يوجد فيها أي طفل غيره يذهب للتعلم؛ لذلك نراه في الفصل الدراسي وحيداً مع مُعلمته التي تقوم بالتدريس من أجله فقط في المنطقة التابعة لقوات الأُمم المُتحدة!
صديقي المفضل
يفتتح المُخرج عالمه الفيلمي على الطفل الصربي “نيناد”- قام بدوره المُمثل الصربي “فيليب سوباريتش:- داخل الفصل الدراسي، بينما يقرأ لمُعلمته واجبه المنزلي الذي كلفته به بعنوان “صديقي المُفضل”؛ فنسمعه يقرأ: ليس لي صديق مُفضل، لأنه لا يوجد أي أطفال في قريتي، أحب اللعب مع جدي “ميلوتين” الذي يبلغ 86 عاماً، هو لطيف جداً، لديه ابن اسمه فويا، وهو والدي، ميلوتين وفويا يتشاجران باستمرار.
ربما نلاحظ هنا المقدرة الفنية والإتقان لدى المُخرج الحريص على الإيجاز، واختصار الكثير من المشاهد التي كان عليه أن يصورها كي نعرف هذه المُعطيات، إذ لم يلجأ إلى كتابة هذا المشهد- المُخرج هو كاتب السيناريو-، أي أن هذا المشهد المُوجز كان قادراً على عرض العديد من المشاهد الأخرى التي رأى المُخرج أن الفيلم في غنى عنها؛ فعرفنا من خلاله شكل العلاقة التي تربط نيناد بجدّه، ووحدته، وحزنه الشديد، وعلاقة أبيه بجده وعدم استقرارها، ورغبة أبيه الكبيرة في ترك إقليم كوسوفو والهجرة منه، لكنه مُرغم على البقاء بسبب الجد الكبير الذي يرفض الرحيل، كما علمنا عن عمته التي رحلت إلى بلجراد وتزوجت هناك خبازاً وعاشت معه.
إن هذا المشهد، الذي يختصر الكثير من المشاهد، يُدلل على مدى قدرة المُخرج في فهم صناعة السينما التي ليست في حاجة إلى الثرثرة بقدر حاجتها للإيجاز وتقديم العديد من الجماليات الفنية.
رغبات الانتقام
المُخرج كان حريصاً على التأطير الزمني لأحداث فيلمه منذ البداية، التي حددها في نيسان 2004م، أي، حسب الأحداث التاريخية التي حدثت في الواقع، بعد أسبوعين فقط من المذابح التي اجتاحت كوسوفو في مُنتصف آذار من العام نفسه، مع تنفيذ أعمال انتقامية عنيفة ضد السكان الصرب المُتبقين في المنطقة، ولعل هذا التحديد الزمني هو ما يفسر لنا كيفية صيرورة الأحداث في الفيلم وسبب وجود الأسرة الصربية الباقية في الجيب تحت حماية الأُمم المُتحدة المُشددة؛ نظراً للعداء الشديد من قبل الألبان المُسلمين لأي صربي مسيحي ورغبتهم في الفتك به والانتقام منه.
إن هذا الجو المشحون تماماً برغبات الانتقام وإسالة المزيد من الدماء يصوره المُخرج بنجاح وذكاء ودراية فنية من خلال حرصه على أن تكون الرؤية البصرية في أغلب المشاهد من خلال الإطارات الضيقة كالنوافذ الصغيرة، أو الثقوب وغيرها من الإطارات الخانقة التي توحي بالحصار الشديد والشعور بالاختناق الذي تعاني منه الأسرة الصربية، في مُقابل البيئة المُحيطة المُتسعة ومساحاتها الشاسعة التي يعيش فيها الألبان المُسلمون مُستمتعين، بل ويحاولون استعراض القوة أيضاً، كما أن الإضاءة الخافتة في أغلب المشاهد تدل على الحزن الجاثم على صدورهم طوال الوقت.
يصل المرض بالجد ميلوتين- قام بدوره الممثل المقدوني Meto Jovanovski “ميتو جوفانوفسكي”- إلى درجة كبيرة من الوهن؛ حتى أنه لا يستطيع مُشاركة حفيده نيناد في لعب الدومينو، ويضطر إلى منحه السكر من دون لعب، وهو الأمر الذي يُشعر الفتى بالضيق؛ لرغبته في اللعب مع جده.
يراقب نيناد الأطفال الألبان الذين يقومون باللعب في المساحات الواسعة، لكنه يقوم بهذه المُراقبة خِفية تخوفاً منهم رغم رغبته الشديدة في مُشاركتهم. حينما يصل إلى المدرسة ذات يوم يجد مُعلمته قد كتبت له على لوح التعلم اعتذاراً بأنها قد وجدت عملاً لها في بلجراد واضطرت للذهاب إلى هناك، وبناءً على ذلك عليه ألا يذهب إلى المدرسة لحين الاتصال به. يخرج نيناد من المدرسة حزيناً ليراقب الأطفال الذين يلعبون لكنهم يلمحونه، ويحاولون اللحاق به مُخبرين إياه أنهم يرغبون أن يركبوا معه السيارة المُصفحة التي يقومون برجمها بالحجارة كلما مرت من أمامهم، يخبرهم نيناد أنهم لا يمكنهم دخول السيارة لأنهم ألبان، فيقولون له: أخبر الجندي بأن جدتنا صربية؛ فيسألهم نيناد عن المُقابل إذا ما فعل ذلك، ليخبروه بأنهم سيأخذونه إلى الجدول كي يسبح معهم، ولن يشاركهم “باشكيم”. يستفسر نيناد عن باشكيم ليعرف منهم أنه فتى قريب منهم في العمر يرعى الماشية في السهول، وأن الصرب قد قاموا بقتل أبيه؛ لذلك يشعر بكراهية كبيرة تجاه أي صربي باعتبار أن كل الصرب مسؤولين عن مقتل الأب وحرمانه منه، وهو ما يجعل باشكيم ذات مرة يخبر أقرانه من الأطفال بقوله عن نيناد: إنه مُجرم، جميعهم مُجرمون، وهو ما يُدلل على أن الصراع قد ترك أثره.
إن المُخرج هنا يضع أحداثه بالكامل على فوهة مُلتهبة، الأمر الذي ينذر بكارثة من المُمكن لها أن تحدث؛ فالجد الصربي يلفظ أنفاسه الأخيرة، بينما الأسرة الألبانية تستعد لزفاف ابنها الاستعراضي، ونيناد قد انخرط في صداقة مع الفتيين الألبانيين ويلهو معهما، وباشكيم يراقبهم ويراقب الجميع راغباً في الانتقام لمقتل أبيه، أي أن قدوم العاصفة قريب لا محالة، وهو ما يمكن له أن يُفجر الوضع مرة أخرى، ويطلق المزيد من الكراهية والثأر والرغبة في الانتقام لإسالة المزيد من الدماء.
يموت الجد ميلوتين ويشعر الفتى بالحزن الشديد عليه، ويطلب منه أبوه الذهاب لاستدعاء القس “درايا” والانتهاء من الجنازة؛ فهو لن ينتظر وصول شقيقته “ميليتسا”- قامت بدورها المُمثلة الصربية Anica Dobra “أنيكا دوبرا”- التي تقيم في العاصمة الصربية بلجراد، وحينما يذهب الفتى إلى الجندي الذي لا يفهم الصربية، يخبره الجندي أنه لا توجد مدرسة وعليه العودة مرة أخرى إلى البيت مانحاً إياه قطعة من الشيكولاتة؛ فيضطر نيناد للذهاب إلى بيت القس جرياً على قدميه، في نفس الوقت الذي كان فيه القس قد ركب عربته التي تجرها الخيول مُتجهاً إلى بيت الجد من أجل مراسم دفنه.
العزلة الدائمة
إن عدم إمكانية التعايش والعداء التاريخي بين الصرب والألبان يتضح لنا حينما يلتحق نيناد بالمدرسة في بلجراد وتسأله المُعلمة في الفصل عن مسقط رأسه؛ فيخبرها أنه من إقليم كوسوفو؛ الأمر الذي يجعل زملاءه يعلقون ساخرين: ألباني، وينخرطون في الضحك الساخر، بل ويحرصون على تجنبه الدائم، ما يشعره بالمزيد من الوحدة والعُزلة رغم تركه لإقليم كوسوفو الذي كان المسلمون يتجنبونه فيه.
في الفيلم الصربي “الجيب” للمُخرج الموهوب “جوران راداكوفيتش” ثمة تساؤل مُتأمل لإمكانية التعايش مرة أخرى بين الألبان والصرب ومحاولة تناسي الخلافات والنزاعات الدامية التي دارت بينهما فيما سبق، وهو يحاول تأمل هذا الأمر من خلال عيني طفل صربي وحيد وحزين يتابع ما يدور من حوله من كراهية وحقد موروث بين الآباء الكبار، لكن المُخرج نجح بالفعل في إيصال رسالة مفادها: أن التعايش والتسامح بينهما لا يمكن له أن يكون إلا من خلال الأجيال الجديدة القادرة على التجاوز عن الماضي الدامي للآباء، وهو ما رأيناه بوضوح حينما تم إنقاذ نيناد من تحت جرس الكنيسة ووقوف باشكيم مُتأملاً له ليقول: ارجع مرة أخرى، أي أن الطفل الصغير الذي كان يرى أن جميع الصرب مجرد مُجرمين ومسؤولين عن مقتل أبيه قد استطاع التسامح والتجاوز؛ الأمر الذي جعله يشعر بالافتقاد الشديد لنيناد الصربي الذي رحل إلى بلجراد، وطلب منه العودة مرة أخرى.